علم الله ـ 1

img

مصطفي آل مرهون

﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لقمان: 15].

إن الله يعلم ذاته، ويعلم الكون بما فيه من أحداث كلية وجزئية، ولا يتقيد علمه بزمان ولا مكان، كما أن علمه بالجزئيات كعلمه بالكليات لا يبدّل شيئاً من تفرده ووحدانيته، ولا ذاته وصفاته.

دليل المتكلمين

استدل المتكلمون على علمه تعالى بأنه أوجد الموجودات على أصلح الوجوه وأنفعها، ونظمها تنظيماً تاماً محكماً، وأعطى كل شيء خلقه. ولا شيء أدل على العلم من الأحكام والاتقان؛ فهو البرهان الملموس الذي لا يقبل التشكيك والتأويل.

دليل الفلاسفه

إن كل شيء سوى الله ممكن، وكل ممكن مستند إلى الله تعالى؛ إما ابتداءً، وإما بالوسائط. فذاته إذن علة لكل شيء، وهو يعلم ذاته بالضرورة، والعلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول.

إشكال وحل

وتقريره: أن الله لا يمكن أن يعلم بالجزئيات والحوداث الفردية، ولا يمكن أن يجهلها أيضاً؛ لأن الجهل نقصان، والله منزّه عنه. والعلم بها يستدعي محذورين:

المحذور الأول: أنه لو علم بالجزئيات لصار الممكن واجباً؛ لأن علمه لا ينفك بحال عن المعلوم، فإذا علم بوجود شيء فلابد أن يوجد، وإلا انقلب علمه خطأً وجهلاً، والله منزّه عنهما.

المحذور الثاني: أن الجزئيات تتغير وتتبدل، حيث توجد بعد أن تكون معدومة، وتعدم بعد وجودها، فهي في تغير دائم، ولو علم الله بها للزم أن يتغير علمه ويتبدل تبعاً لتغير الجزئيات وتبدلها؛ لأن العلم صورة مطابقة للمعلوم، مع أن علم الله ثابت على وتيرة واحدة، وليست له حال متجددة. وعليه يستحيل علمه بالجزئيات ابتداءً.

وفراراً من هذين المحذورين قال الفلاسفة: إن الله لا يعلم الجزئيات المتغيرة ابتداءً وبلا توسط، وإنما يعلمها عن طريق أسبابها وعللها؛ لأنه يعلم ذاته، والعلم بذاته علم بكل شيء؛ لأنها هي العلة الأولى والمرجع لجميع الأشياء؛ إما ابتداءً، وإما بتوسط العلل الثانوية. والعلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول. وبهذا جمع الفلاسفة بين تنزيه علم الخالق عن التغير والحدوث، وبين نفي النقص والجهل عنه.

وقال المتكلمون: إن الله يعلم الجزئيات بذاتها وبأسبابها، كما يعلم الكليات. ودفعوا محذوري التغير في علم الله بأن معنى علمه بالجزئيات المتغيرة هو أن يضاف الجزئي إذا وجد إلى علمه، فإذا انتفى انتفت معه الإضافة إلى العلم، أما العلم نفسه فباقٍ كما هو.

مثال ذلك: إن زيداً إذا وجد نسب وجوده إلى علم الله، وإذا عدم انتفت النسبة إلى العلم ولم ينتفِ نفس العلم. تماماً كقدرتك على الحديث مع صاحبك: تتحقق إذا وجد الصاحب، وينتفي الحديث إذا لم يوجد، أما قدرتك على الحديث فباقية على ما هي.

أو قل: إن صفة العلم بالجزئيات ترجع إلى صفة الخلق والإيجاد، أي أن الله خلقها وأوجدها، والإيجاد صفة إضافية حادثة وزائدة عن ذات الله.

ودفعوا محذور انقلاب الممكن إلى واجب بأن علم الله تعلّق بالممكن بما هو ممكن، أي بما هو قابل للوجود في قبالة الممتنع الذي يستحيل وجوده في الخارج لوجود سببه، وعليه يكون وجوبه لاحقاً لا سابقاً، وهذا لا يتنافى مع الإمكان الذاتي؛ لأن كل موجود ممكن بالذات واجب بالعرض؛ ولذا قيل: إن الشيء ما لم يجب لم يوجد.

وبالتالي فإن الله يعلم الكليات والجزئيات بذواتها وأسبابها، ويعلم الجواهر القائمة بغيرها، ويعلم الموجودات الخارجية والذهنية، ويعلم أعدام الممكنة والممتنعة. يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: 3].

وتلاحظ أن الذين كفروا لا يؤمنون بيوم القيامة ليرتكبوا ما يحلوا لهم من الأعمال. ولكن الآية تخاطب النبي‘: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾.

والتركيز على كلمة ﴿رَبِّي﴾ لأن القيامة من شؤون الربوبية، فكيف يمكن أن يكون الله مالكاً ومربياً للبشر يقودهم في سيرهم التكاملي ثم يتخلى عنهم في منتصف الطريق لينتهي بالموت كل شيء، فتكون حياتهم بلا هدف وخلقهم هباءً وبلا معنى؟! يقول تعالى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ [التغابن: 7].

ولما كان إشكال الكافرين في إمكانية إعادة الإنسان بعد تبعثره ووجود من يمكنه النظر في أعمال العباد قال الخالق: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ…﴾ [سبأ: 7]. فأكد أن أعضاء الإنسان محفوظة وإن كان لها أشكال متعددة. يقول تعالى: ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ [ق: 3 ـ 4].

والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ، وهو لوح العلم الإلهي اللامتناهي الذي فيه ضبط وقيد كل شيء بدون أن يجد التغيير والتبديل طريقه إليه.

وعالم الوجود المترامي الأطراف هو انعكاس عن ذلك اللوح المحفوظ، بلحاظ أن كل ذرات وجودنا وكل أقوالنا وأفعالنا تبقى محفوظة فيه، وإن كانت الظواهر تتغير لكنها لا تخرج عن حدها أبداً.

يتبع…

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة