كشكول الوائلي _ 43

img

آراء المفسّرين في العذاب

((إلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكمْ ))، ما هو المراد من العذاب هنا؟ للمفسّرين فيه ثلاثة آراء سنستعرضها إن شاء اللّه‏:

الرأي الأوّل: أن اللّه‏ يقطع عنهم المطر، حيث إنّهم في حاجة له. ولك أن تتصوّر هذه العقليّة، وهذا يعكس نفسيّة المفسّر التي فرضها على النصّ.

الرأي الثاني ـ وهو الصواب ـ : أن ((يُعَذِّبْكمْ )) بمعنى يسلّط العدوّ عليكم. وهو الذي يناسب جوّ الآية، فأي عذاب على الاُمّة أعظم من أن يسومها عدوّها الخسف؟ ونرى الآن مايفعله اليهود بنا ومايفعله الصليبيّون بالمسلمين في البوسنة والهرسك، أو أن يخرج حاكم ظالم من داخل البلد فيسومهم سوء العذاب.

الرأي الثالث: أن يكون العذاب الأليم في الآخرة[1]؛ لأن الدنيا ليست بدار جزاء وإنما الجزاء في الآخرة، وأن الأليم لا يكون في الدنيا وإنما في الآخرة، وأن الدنيا مهما تمرّ فيها من شدائد فإنها تنتهي، أمّا العذاب في الآخرة فلا ينتهي: ((كلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودا غَيْرَهَا [2])). فالعذاب الأليم يوم يعرض العاصي بين يدي اللّه‏ عزّ وجلّ ويصدر حكم العذاب عليه.

 

ليشكوا إلى الخليفة

فالدنيا تحتاج إلى عطاء. دخل رجل على عمر بن الخطاب وقال: يا خليفة رسول اللّه‏، إن هذا شتمني. قال: كيف شتمك؟ قال: يقول لي:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واجلس فإنك أنت الطاعم الكاسي

فقال له الخليفة: إنه لم يشتمك فأنت تأكل وتشرب. فقال: لنسأل أحد الاُدباء. فبعث خلف حسان بن ثابت، فلما وصل قال له: أفي هذا البيت شتم؟ فقال له: إنه ليس هجاءً فقط، بل أكثر من ذلك[3].

 

الديصاني والامام الصادق عليه السلام

((وَالله عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))، الشيء الممتنع لذاته هل هو شيء حتى يمكن أن يكون في إطار قدرة اللّه‏ عليه؟ ننقل هذه الحادثة: دخل أبو شاكر الديصاني على الإمام الصادق عليه السلام وقال له: ألك ربّ؟ قال: «بلى، اللّهعزّ وجلّ ربّ السماوات والأرض». قال: أربّك قادر قاهر؟ قال: «بلى». قال: هل يستطيع ربّك أن يدخل هذا الكون في بيضة، بحيث لا تكبر البيضة ولا يصغر العالم؟ فقال أبو عبد اللّه‏ عليه السلام : «كم حواسّك؟». قال: خمس. قال: «أيها أصغر؟». قال: الناظر. قال: «وكم قدر الناظر؟». قال: مثل العدسة أو أقل منها. فقال له: «فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بماترى». فقال: أرى سماء وأرضاً ودوراً وقصوراً وبراري وجبالاً وأنهاراً. فقال له أبو عبد اللّه‏ عليه السلام : «إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة»[4].

وهذا على قدر عقله، أما الجواب العلمي فهو أن الممتنع لذاته لا يعتبر شيئا، فهذا نقص في المقدور حيث إنه ليس له قابلية[5]. نحن نريد أن نقول: إن هناك
أشياء لا نعطيها للعقليّات العامّة حيث إنهم لا يفقهونها، فالإنسان البسيط هذا يريد أن يتعلّم الحكم الشرعي والمسألة الأخلاقيّة والآداب العامّة، فيجب ألاّ اُدخله في قضايا لا علاقة له بها، وأن اُرفق ببنائه، فأنا لا اُدرّس صفّا له مؤهّلاته.

فيجب الأخذ بنظر الاعتبار عقليّة الإنسان الذي اُخاطبه، وقد رأينا كيف سلك الإمام عليه السلام مع هذا الشخص؛ لأن اللّه‏ بعث الأنبياء لمخاطبة الناس على قدر عقولهم[6]، وكذلك هو حال الأيمّة والمصلحين.

يتبع…

______________________

[1] انظر الميزان في تفسير القرآن 9: 279 .

[2] النساء: 56 .

[3] تاريخ المدينة 2: 526، 3: 786، البداية والنهاية 8 : 105، كنز العمّال 3: 844 / 8919 .

[4] الكافي 1: 79 / 4، وفيه أن الديصاني سأل هشام بن الحكم عن ذلك، فأعياه الجواب، فاستمهله ثم عرض السؤال على الصادق عليه ‏السلام، فأجابه بما أجابه. التوحيد: 120 / 10 ـ 12، وفيه أنه سؤال وجهه رجل لأمير المؤمنين عليه‏ السلام.

[5] وهو ما يعبّر عنه بأنه نقص وقصور في القابل لا في الفاعل، فمن هذه الجهة يكون جواب الإمام عليه‏ السلام جوابا إقناعيّا لا علميّا، وذلك لمناسبة ذهنيّة السائل، وإلاّ فإنه لو كان ذا عقليّة علميّة لما سأل مثل هذا السؤال حتما، إذ أنه حينها سيكون عارفا بأن قصور البيضة عن قبول ذلك إنما هو قصور ذاتيّ فيها، وليس هو قصور من الفاعل ـ وهو اللّه‏ جلّ وعلا ـ مطلقا. ودليل سذاجة السائل اقتناعه بالجواب مع أن الذي دخل العين هو صورة العالم لا العالم نفسه، وبينهما بون شاسع وفرق واسع؛ فالصورة غير المادّة كما هو واضح من تقسيم الفلاسفة العلل إلى أربع: ماديّة وصوريّة وفاعليّة وغائية، والقسيم غير قسيمه حتما كما نصّوا عليه وأثبتوه في محلّه .

[6] المحاسن 1: 195 / 17، الكافي 1: 23 / 15.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة