كشكول الوائلي _ 42

img

غزوة تبوك والمنافقون

والآية نزلت بسبب غزوة تبوك في شهر رجب سنة (9) هـ، حيث كان الروم على حدود الجزيرة العربيّة في الشام، وكانوا يتصوّرون أن وجود العرب على حدودهم يشكل عليهم خطرا، فأرادوا أن يبدؤوا بالقتال لدفع عدوان محتمل، فلمّا تحرّك الروم بلغ النبي صلى الله عليه وآله ذلك، وكان الوقت شديد الحرّ، فصعد النبي صلى الله عليه وآله ودعا الناس للنفير وأن ينبري المسلمون للقتال. وهنا استغلّ المنافقون الفرصة ومنهم عبد اللّه‏ بن اُبيّ وجماعته ـ وهم شريحة كبيرة جدا في المدينة، وكانوا يسبّبون مضايقة للمسلمين ـ وكان هؤلاء المنافقون يهبّطون المعنويات ويقولون: إن الجوّ حارّ، وليس عندنا قابليّة على قتال الروم، وليس عندنا مثل أسلحتهم.

وكان هؤلاء يعيشون حالة انهزام داخليّ، في حين أن الإسلام يعبّئ الفرد المسلم للدفاع عن الحقوق الإنسانيّة، والإسلام يعتبر الفرد ممثّلاً للمجتمع، أي أن مصالح المجتمع موجودة داخل الفرد؛ ولذلك لا يوجد انفصام بين الفرد والمجتمع، فالفرد جزء من المجتمع، والمجتمع إذا كان في خير فإنه ينعكس على الفرد، كالعضو في الجسم[1].

فالمنافقون كانوا يؤثّرون على المسلمين، وهذه كارثة، لكن النبي صلى الله عليه وآله أصرَّ على الاستنفار، وخرج معه جيش عدده ثلاثون ألفا من المقاتلين، وتخلّف المنافقون ومنهم عبد اللّه‏ بن اُبيّ. وكان من بين المسلمين من لا يملك سلاحا ولا راحلة ومع ذلك التحق بالجيش، وكان أبو ذر رضى‏الله‏عنه قد جاء ماشيا على القدمين. يروي مسلم[2] في صحيحه، وغيرُه في غيره من الصحاح[3] قال: خلّف رسول اللّه‏ صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: «يا رسول اللّه، تخلّفني في النساء والصبيان؟». فقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيّ بعدي؟». فسكت الإمام عليه السلام .

وهذه الواقعة تدلّ على أن النبي صلى الله عليه وآله لا يمكن أن يخرج دون أن يستخلف أحدا، فكيف نقول: إنه صلى الله عليه وآله قد خرج من الحياة ولم ينصّ على أحد؟ وقد أردت تصحيح الفكرة حيث إننا نريد أن نلتمس الدليل باستجابة سليمة؛ فالبعض يتلقّى الدليل باستجابة معوجّة، نقرأ في القرآن: ((وَلا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ [4]))؛ حيث إن الكافر من المستحيل أن يدخل الجنّة كما أن من المستحيل أن يدخل الجمل في ثقب الاُبرة، فنجد أن البعض يقول: إن اللّه‏ إذا أراد ألاّ يعذّب أحدا فعل، فإنّ الجمل عندما يذبح يجعل روحه في جسم بقرة وعندما تذبح البقرة يجعل روحها في جسم خروف وهكذا إلى الحيوان الصغير مثل النملة حتى تدخل في ثقب الاُبرة فيدخل الكافر الجنة.

ونحن حينما نقول للبعض: إن النبي صلى الله عليه وآله عنده نصّ بألاّ يخرج دون أن يستخلف أحدا مكانه.

يكابر ويقول: إن الأدلّة غير ناهضة.

مع أننا نجد أن النبي صلى الله عليه وآله يُوحى إليه في كلّ شيء حتى عند خروجه إلى سفر، فكيف بخروجه من الدنيا؟

نرجع للآية، وصل النبي صلى الله عليه وآله إلى مشارف تبوك حيث الروم، فطلع أمير المنطقة يحمل وثيقة صلح وقبولهم بدفع الجزية، فقبل النبي صلى الله عليه وآله ذلك منه، وأخذ الوثيقة وأخذ عليه تعهّدا بدفع الجزية. ثم ساروا فوجدوا أمير تبوك يصيد، فأمسكوه وأسروه، ودخلوا تبوك فاتحين واحتلّوها، وكان هناك قبائل عربيّة ترزح تحت أسر الروم فحرّروها من الأسر، وفرضوا لها مكانة محترمة وسنّوا لهم قانوناً بألاّ يُعتدى عليهم، ثم رجعوا بالغنائم.

وقد استغرقت هذه العمليّة (20) يوما مع الذهاب والإياب، ولما رجع النبي صلى الله عليه وآله للمدينة اتّخذ موقفا صارما وغاية في الشدّة ضد المنافقين، فقرّر مقاطعتهم؛ لأنهم وقفوا موقفا سلبيّا، وعدائيأ ضدّ حماية الدين والمجتمع، وعالج هذا الموقف بصلابة حتى لا يتكرّر. وهؤلاء المنافقون مثلهم كمثل من أعان الأجنبي الذي
يهدد مصالح الاُمة والمجتمع، بل يحمله على كتفه بدلاً من أن يحمي اُمّته من هذا الأجنبي، فهذه خيانة وطنية.

((إن لا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكمْ عَذَابا ألِيما )): إذا لم تخرجوا للقتال فسوف تعرَّضون للعذاب. وهذا المقطع يريد أن ينبّه الفرد إلى أن حياته ليست كلّها نوما وأكلاً وراحة، وإنما فيها القتال والدفاع عن الاُمة، وبدلاً من أن تستشعر اللذّة عليك أن تستشعر الخشونة، أي أن تعبّئ روحك وتهيّئها وتروّضها للأحداث الآتية، فأيّامك ليست كلّها نعيما، فلا تنتظر الموت وأنت على فراشك. ولقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يرفع هذا الشعار: «واللّهما اُبالي وقعت على الموت، أو وقع الموت عليّ»[5]؛ لأنّ الإنسان له حالات يكون الأولى له فيها لباس الشهادة، في حين أنه في حالات اُخرى يكون الأولى له فيها لباس العافية. وقد نجد مجموعة يُعبّر عنهم بـ (الحفاة) يحملون العصا وعليهم أسمال بالية فيحتلّون العالم ثمّ ينبسط ظلّهم وسلطانهم على العالم كلّه.

فهذه تعبئة الرسالة والنبوّة، فالفرد قد تصنع منه اُمّة، أو قد يتعرّض الفرد للطغيان فيتحوّل إلى كيان مسحوق ميّت، يقول أحد الشعراء:

نحن موتى وشرّ ما ابتدع الطغـ *** ـيان موتى على الدروب تسيرُ

فالآية بصدد التعبئة.

يتبع…

______________________

[1] قال رسول الله صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله: «مثل المؤنين فيما بينهم كمثل البنيان يمسك بعضه بعضا ويشدّ بعضه بعضا». عوالي اللآلي 1: 377 / 107، وقال صلى‏ الله ‏عليه‏ و‏آله: «مثل المؤنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى». مسند أحمد 4: 270.

[2] صحيح مسلم 7: 120، وروى أيضاً في الصفحة عينها عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قال رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله لعلي: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ إنه لا نبي بعدي».

قال سعيد: فأحببت أن اُشافه بها سعداً، فلقيت سعداً فحدثته بما حدثني عامر، فقال: أنا سمعته. فقلت: أنت سمعته؟ فوضع اصبعيه على اُذنيه فقال: نعم وإلاّ فاستكتا.

[3] فضائل الصحابة أحمد بن حنبل: 13 ـ 14، الجامع الصحيح 5: 302 / 3808، 304 / 3813 ـ 3814، السنن الكبرى (النَّسائي) 5: 44 / 8138 ـ 8143 ، فتح الباري 7 : 60، وروى الحاكم في المستدرك 3: 108، أنه قال معاوية لسعد بن أبي وقّاص: ما يمنعك أن تسبّ ابن أبي طالب؟ قال: لا أسبّه ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى‏ الله ‏عليه‏ و‏آله لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم. قال له معاوية: ماهن يا أبا إسحاق؟ قال: لا أسبّه ما ذكرت حين نزل عليه الوحى فأخذ عليّاً وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال: «ربّ إن هؤاء أهل بيتي». ولا أسبّه ما ذكرت حين خلّفه في غزوة تبوك، غزاها رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله فقال له علي: «خلفتني مع الصبيان والنساء؟». قال: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ إنه لا نبوّة بعدي؟». ولا أسبّه ما ذكرت يوم خيبر حين قال رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله: «لاُعطين هذه الراية رجلاً يحبّ اللّه‏ ورسوله ويفتح اللّه‏ على يديه». فتطاولنا لرسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله، فقال: «أين علي؟». قالوا: هو أرمد. فقال: «ادعوه». فدعوه فبصق في وجهه ثم أعطاه الراية ففتح اللّه‏ عليه. قال: فلا واللّه‏ ما ذكره معاوية بحرف حتى خرج من المدينة. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة.

[4] الأعراف: 40 .

[5] مقاتل الطالبيّين: 21، جواهر المطالب 1: 338، فيض القدير 4: 623 .

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة