الهجرة لطلب العلم

المعنى الثالث لـ ((سَبِيلِ اللّه‏ِ )) هو الهجرة لطلب العلم؛ فأنا إنما أفعل ذلك كي أرجع إلى بلدي بحصيلة علميّة أخدم فيها بلدي، حيث إنه لا توجد في بلدي المعاهد والكليّات العلميّة والثقافيّة فأضطرّ للهجرة وأتحمّل بذلك شظف العيش. وقد مارس المسلمون ذلك فدرسوا وامتهنوا المهن، فمثلاً علي بن الحسين الطاطريّ كان يبيع الثياب الطاطريّة ويخرج لطلب العلم، ونصر بن مزاحم صاحب (وقعة صفين)، كان عطّارا ويدرس علم التاريخ والرواية، والمقداد السيوري ـ من أجلّ علمائنا ـ كان يبيع السيور لأصحاب الخيل فيعيش منها ويدرس، ومنهم من كان يبيع السعد للعطارين حيث يدق السعد ويبيعه، ويتقوّت منه. وهكذا في مختلف المذاهب الإسلامية، وكانوا يتعرّضون لأنواع الشدّة والضيق في هجرتهم لطلب العلم مع أنهم كانوا في بلدانهم مرفّهين. وقد كان للسيد البروجردي ولد يدرس معنا، وكان يسكن بيتا من غرفتين في شارع السلام لا يسكن فيهما إلاّ الفقير، مع أنه في بلده يستطيع أن يسكن في أرقى البيوت. وهو حتى الآن يترك بلده ومافيه من نعيم ورفاهية ويرجع يعيش في أمكنة غاية في التواضع، وكل ذلك من أجل طلب العلم. فهذه هجرة في سبيل اللّه‏.

أبا سلمة وعثمان بن مظعون

وسبب نزول الآية أن أبا سلمة وعثمان بن مظعون الصحابيين ماتا في المدينة المنوّرة، فكان الناس يشيّعونهما ويقولون: إن هذين لو قتلا في ساحة الجهاد لكان أفضل لهما. فنزلت الآية [1]؛ حيث إنهما خرجا مهاجرَين من أوطانهما في سبيل اللّه‏، فلا فرق بين أن يقتلا أو يموتا، وكذلك حال أمثالهما.

أمير جزيرة رودس

كان عند أمير جزيرة رودس فضالة بن عبيد اثنان من المسلمين أحدهما جاهد وقتل، والآخر مات وهو من المهاجرين، فرأى أن التشييع للذي قتل في ساحة القتال أكثر من تشييع الثاني، فقال لهم: أراكم تميلون إلى هذا. فقالوا: إنه قد استشهد حيث إنه قذف بنفسه في لهوات الحرب لأجل الشهادة. قال فضالة: واللّه‏ ما اُبالي من أي حفرة من حفرتيهما بعثت. وقرأ الآية، وقال: إن الذي يخرج مهاجرا في سبيل اللّه‏ سواء قتل أو مات حتف أنفه كلاهما سواء.

يتبع…

_____________

[1] الجامع لأحكام القرآن 12: 88 .