الوالدين ـ 1

img

مصطفي آل مرهون

﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي… ﴾ [لقمان: 15].

عادة يشعر الولد بأن أباه أعظم الناس وأحقهم بالإجلال والاحترام، وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم في أسواقهم، وفي مجالس حجّهم، حتى نزل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200].

ويتلو ذلك شعور عزة الحماية والتربية له من والده، مما ينعكس بالذود عن الوالد والانتقام له، وأكبر من ذلك أنه يشرف بشرفه ويحقر بصعته، بل ويشعر أنه بضعة من أبيه، يرث منه بعض صفاته وطباعه جسدية ونفسية وعقلية.

ولما كان الوالد أصل للولد فإن حبه لولده أقوى وأبقى؛ فهو بضعة منه، ويرجو له البقاء، ويحرص علىه أشد من حرصه على نفسه ويحرم نفسه من الطيبات إيثاراً له، ويتحمل الصعاب من أجله.

ولذلك جعل الله طاعته واجبة، وطلب رضاه حتم، وجعل طاعته منوطة بطاعته، وسخطه منوطان برضاه وسخطه.

قال رسول الله‘: «رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين»([1]). وقال‘: «إن الوالد باب من أبواب الجنة، فاحفظ ذلك الباب»([2]). وقال: «من حج عن والده بعد وفاته كتب الله لوالده حجة وكتب له براءة من النار»([3]).

وعن إبراهيم بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله×: إن أبي قد كبر جداً وضعف، فنحن نحمله إذا أراد حاجة. فقال×: «إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل، ولقّمه بيدك؛ فإنه جنة لك غداً»([4]).

وقال موسى×: «أكرم أباك لكي تطول أيامك على الأرض»([5]).

وقال‘: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم»([6]).

ويقول زين العابدين× في رسالة الحقوق: «وحق أبيك أن تعلم أنه أصلك، وأنه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوة إلا بالله»([7]).

وفي الصحيفة السجادية: «اللَّهُمَ‏ اجْعَلني‏ أهابُهُما هَيْبَةَ السُلطانِ‏ الْعَسُوفِ‏، وَ أَبَرُّهُما بِرَّ الأُمِّ الرَّؤوفِ، وَ اجْعَلْ طاعَتي لِوالِدَيَّ وَ بِرّي بِهِما أَقَرَّ لِعَيْني مِنْ رَقْدَةِ الوَسْنانِ، وَ أَثْلَجَ لِصَدْري مِنْ شَرْبَةِ الظَّمْآنِ، حَتّى‏ أؤثِرَ عَلى‏ هُوايَ هُواهُما، وَ اقَدِّمَ عَلى‏ رِضايَ رِضاهُما، وَ أسْتَكْثِرَ بِرَّهُما بي وَ إنْ قَلَّ، وَ أسْتَقِلَّ بِرّي بِهِما وَ إنْ كَثُرَ»([8]).

وروى المجلسي أن شيخاً كبيراً جاء بابنه إلى رسول الله‘ وهو يبكي ويقول: يا رسول الله، إبني هذا غذوته صغيراً، وربيته طفلاً عزيزاً، وأعنته بمالي كثيراً، حتى اشتد أزره وقوى ظهره وكثر ماله، وفنيت قوتي وذهب مالي عليه، وصرت من الضعف إلى ما ترى، قعد بي فلا يواسيني بالقوت الممسك لرمقي. فقال رسول الله‘ للشاب: «ماذا تقول؟» قال: يا رسول الله، لا فضل معي عن قوتي وقوت عيالي. فقال رسول الله‘ للوالد: «ما تقول؟» فقال: يا رسول الله، إن له أنابير حنطة وشعير وتمر وزبيب، وبدر الدراهم والدنانير، وهو غني. فقال رسول الله‘ للابن: «ما تقول؟» قال الابن: يا رسول الله‘ مالي شيء مما قال.

قال رسول الله‘: «اتق الله يا فتى، وأحسن إلى والدك المحسن إليك». قال: لا شيء لي. قال رسول الله‘: «فنحن نعطيه عنك في هذا الشهر، فأعطه أنت فيما بعده». وقال لأسامة: «أعط الشيخ مائة درهم نفقة لشهره لنفسه وعياله». ففعل. فلما كان رأس الشهر جاء الشيخ والغلام، وقال الغلام: لا شيء لي. فقال رسول الله‘: «لك مال كثير، ولكنك اليوم تنسى وأنت فقير وتصير أفقر من أبيك هذا، لا شيء لك».

فانصرف الشاب فإذا جيران أنابيره قد اجتمعوا عليه يقولون حول هذه الأنابير عنا، فجاء إلى أنابيره وإذا الحنطة والشعير والتمر والزبيب قد نتن جميعه وفسد وهلك، وأخذوه بتحويل ذلك عن جوارهم، واكترى أجراء بأموال كثيرة فحولوه وأخرجوه عن المدينة، ثم ذهب يخرج إليهم كراء من أكياسه التي فيها دراهمه ودنانيره فإذا هي قد طمست ومسخت حجارة، وأخذ الحمالون يطالبون بالأجرة، فباع ما كان له من كسوة وفرش ودار، وأعطاهم الكراء، وخرج من ذلك كله صفراً.

ثم بقي فقير وقتراً لا يهتدي إلى قوت يومه، فسقم لذلك جسده وضنى. فقال رسول الله‘: «يا أيّها العاقّون للآباء والأمّهات اعتبروا و اعلموا أنّه كما طمس‏ في‏ الدنيا على أمواله، فكذلك جعل ما كان أعدّ له في الجنة من الدرجات معدّاً له في النار من الدركات»([9]).

وقال أحدهم يشكو عقوق ولده:

وربيته حتى إذا ما تركته *** فتى الحرب واستغنى عن الطر شاربه
تعمد حقي ظالماً ولوى يدي *** لوى يده الله الذي هو غالبه([10])

وقال الرسول‘: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه». قيل يا رسول الله: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه»([11]).

والحديث يبين أن سب الرجل أبويه من أكبر الكبائر؛ لأنه في موضع الإحسان والإثم الكبير مكان البر العظيم، وهذا كفر بنعمة التربية، ودناءة نفس وخسة طبع.

وهل يرجى من شخص يسيء إلى أبويه أن يحسن إلى أحد من الناس؟ ولذلك استغرب الصحابة فأخبرهم الرسول أنه سب غير مباشر، حيث هو تسبب في السبب.

يتبع…

_________________

([1]) شرح رسالة الحقوق: 564.

([2]) شرح رسالة الحقوق: 564.

([3]) شرح رسالة الحقوق: 564.

([4]) شرح رسالة الحقوق: 564.

([5]) شرح رسالة الحقوق: 564.

([6]) شرح رسالة الحقوق: 564.

([7]) شرح رسالة الحقوق: 559.

([8]) الصحيفة السجادية: 116/ 24.

([9]) بحار الأنوار 17: 272.

([10]) شرح رسالة الحقوق: 569.

([11]) شرح رسالة الحقوق: 574.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة