كمال العبودية
إعداد وتقديم زينب آل مرهون
اَلسَّلامُ عَلى مَحالِّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمَساكِنِ بَرَكَةِ اللهِ، وَمَعادِنِ حِكْمَةِ اللهِ، وَحَفَظَةِ سِرِّ اللهِ، وَحَمَلَةِ كِتابِ اللهِ، وَاَوْصِياءِ نَبِىِّ اللهِ، وَذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكاتُهُ، اَلسَّلامُ عَلَى الدُّعاةِ اِلَى اللهِ، وَالأدِلاّءِ عَلى مَرْضاة اللهِ، وَالْمُسْتَقِرّينَ فى اَمْرِ اللهِ، وَالتّامّينَ فى مَحَبَّةِ اللهِ، وَالْمخْلِصينَ فـى تَوْحيدِ اللهِ، وَالْمُظْهِرينَ لاِمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، وَعِبادِهِ الْمُكْرَمينَ الَّذينَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِاَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ، اَلسَّلامُ عَلَى الاْئِمَّةِ الدُّعاةِ، وَالْقادَةِ الْهُداةِ، وَالسّادَةِ الْوُلاةِ، وَالذّادَةِ الْحُماةِ، وَاَهْلِ الذِّكْرِ وَاُولِى الاْمْرِ، وَبَقِيَّةِ اللهِ وَخِيَرَتِهِ وَحِزْبِهِ وَعَيْبَةِ عِلْمِهِ وَحُجَّتِهِ وَصِراطِهِ وَنُورِهِ وَبُرْهانِهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.
إن الهدف الغائي من الخلقة هو وصول الانسان الى السعادة التامة والكمال المطلق، الا وهو القرب منه عز وجل ولن يتحقق هذا القرب إلا عن طريق العبودية والوصول إلى مقام العبودية. لتحصيل مجتمع صالح تقوم به النهضة الإسلامية الموعودة.
والمقصود بالمجتمع الصالح هو المجتمع المثالي الذي لا شرك فيه، ولا خوف، ولا نفاق، ولا حسد، ويتَّسم بالعبودية الحقة لله تبارك وتعالىٰ، وعند تحققه تتحقَّق الغاية التي من أجلها خلق الله تبارك وتعالىٰ الخلق، وهي التي قال الله تعالىٰ عنها: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ), أي الغاية من إيجاد هذا الخلق أن يكون هذا الخلق عابداً موحداً لله عز وجل، وأن يوجد المجتمع العابد والكامل والمستند في كماله إلىٰ الاختيار، والغاية هذه بما أنَّ الله تعالىٰ تكفَّل بها فلا بدَّ أن تتحقَّق.
فالقول يصحُّ في غير الله تبارك وتعالىٰ: لعلَّه يفعل الفعل لغاية، ويمكن أن تتحقَّق الغاية ويمكن أن لا تتحقَّق، ولكن الباري عز وجل بما أنَّه عالم بكلّ شـيء بالظاهر والباطن، ومحيط بالأسرار، وقادر علىٰ كلّ شـيء وحكيم، فانطلاقاً من صفاته عز وجل العليا نجزم بأنَّ الغاية التي خلق الله تعالىٰ الخلق من أجلها لا بدَّ أن تتحقَّق، وهو إيجاد المجتمع الصالح والدولة الصالحة المباركة، وقد وعد الله تبارك وتعالىٰ أن يتحقَّق هذا الهدف الأعلىٰ علىٰ يد الإمام المهدي عليه السلام.
وبطبيعة الحال فالإنسان قاصر عن الالمام بهذا المقام وحقيقته الا بالنظر الى من تجلت وتحققت فيهم هذه الحقيقة بأتم مراتبها وهم المعصومون عليهم السلام، فهم من جسدوا هذا المقام في انفسهم وفي معرفتهم. ودراسة سيرتهم عليهم السلام توضح للسالك حقيقة هذه العبودية ، بالقدرة الصغيرة والمحدودة التي سخرها الله له وليس بشكلها الواسع مهما بلغ في سعة الإدراك والبحث، وافضل وسيلة لمعرفة المعصوم هي الأدعية والزيارات ومنها الزيارة الجامعة التي تعتبر من أصح الزيارات سندا وأعمقها متنا، والمنسوبة سنداً الى الامام العاشر الامام الهادي عليه السلام (ع) . فقد قال كما افتتحنا بداية بحثنا.
اَلسَّلامُ عَلَى الدُّعاةِ اِلَى اللهِ، وَالأدِلاّءِ عَلى مَرْضاة اللهِ، وَالْمُسْتَقِرّينَ فى اَمْرِ اللهِ، وَالتّامّينَ فى مَحَبَّةِ اللهِ، وَالْمخْلِصينَ فـى تَوْحيدِ اللهِ، وَالْمُظْهِرينَ لاِمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، وَعِبادِهِ الْمُكْرَمينَ الَّذينَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِاَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ،
فقد جسد عليه السلام حاله العشق العبودي للمعصوم عليه السلام وذوبانه في الله عز وجل، المستقرين في أمر الله، التامين في محبته، المخلصين له، المظهرين أمره ونهيه، المتفانين في الله عز وجل والممتثلين لأمره وغيرها من الصفات الجليلة الي اتصف بها المعصوم في هذه الزيارة المباركة.
ورد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خرج الحسين بن علي عليهما السلام على أصحابه فقال : أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه ، فأوضح الإمام أن العبادة الحقة لله عز وجل لا تكون إلا عن طريق معرفته عز وجل.
عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل : وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون، قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة. فيفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم .
فجعل الله غاية العمل هي المعرفة والتي لا تتحصل إلا من مضانها ومصادرها وهم أهل البيت عليهم السلام ، ولذا فسر المفسرون ليعبدون بقولهم ليعرفون .
وجعل غاية إرسال المرسلين هو إرشاد الاَمة وجعلهم الهادين للخليقة نحو طريق الصواب وتبيين سير السائرين وسلوك السالكين ، فمعرفتنا وعقولنا القاصرة تعجز عن الوصول إلى كنه المعشوق الأوحد، وتقصر أعظم التقصير في عباداتها لولا ما أسرجه أئمتنا سلام الله عليهم، فليس في سعتنا تحمل التفكير أو التخيل للآخرة وأحوالها وأهواله، ولم يكن لنا رسم هذه الفكرة وما يجري فيها إلا عن طريق تبيان النبوة والإمامة لهذه الأحوال وما يجري فيها.
لذلك طمعنا أئمتنا سلام الله عليهم بالآخرة والجنة والنعيم المعد لنا في تلك الدار الآخرة.
فقد ورد عن أبي عبدالله عليه السلام قال : لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الاَعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها ، وكانت دنياهم أقل عندهم مما يطوونه بأرجلهم ، ولنعموا بمعرفة الله عز وجل وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله .
إن معرفة الله عز وجل أنس من كل وحشة ، وصاحب من كل وحدة، ونور من كل ظلمة، وقوة من كل ضعف، وشفاء من كل سقم.
وامتثال العباد لأوامره ونواهيه والعمل بتوجيهات المعصومين إنما هي غاية عظمى لإيجاد المجتمع الصالح الذي تتكون عليه البنى التحتيه للدولة الإسلامية المنتظرة.
وقد أتضح هذا الأمر وهو وجوب امتثال الأوامر والنواهي من بداية الخلقة وما جرى على نبينا آدم عليه السلام وزوجته حواء في الجنة، فعن يحيى بن المعلى قال: أقبل رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام فقال له: أخبرني عن هذا البيت كيف صار فريضة على الخلق أن يأتوه، فالتفت إليه الإمام الصادق وقال له: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾، فإن كنت ولابد جاعل في الأرض خليفة فاجعله منا، فأوحى الله إليهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، إني أريد أن أخلق خلقاً بيدي وأجعل من ذريته الأنبياء والمرسلين والعباد الصالحين والأئمة المهتدين، وأجعلهم خلفاء على خلقي في أرضي يهدون إلى طاعتي وينهون عن معصيتي. وكان نور من العصمة ظاهراً للملائكة فحجبه الله عنهم وباعدهم عن العرش مسيرة خمسمائة عام، فعلموا أن الله قد سخط عليهم بقولهم ذلك، فقالوا ما حليتنا وما وجه توبتنا؟ فجعلوا يشيرون إلى العرش بالأصابع ويستغفرون ويقولون: سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، فنظر الله إليهم بعين الرحمة فرحمهم ووضع لهم بيتاً يسمى الضراح وجعله بحذاء العرش، وقال تعالى لهم: طوفوا به ودعو العرش فلاذوا به وجعلوا يطوفون حوله وهم يقولون: لبيك ذي المعارج لبيك حتى تاب الله عليهم.
فأحب الله عز وجل أن يُعبد بمثل هذ العبادة فوضع في سماء الدنيا بيتا يسمى البيت المعمور وجعله حذاء الضراح، وجعله توبةً لأهل السماء، فكانت الملائكة تلوذ به وتطوف حوله ويدخله كل يوم سبعين ألف ملك ولا يعودون له أبداً إلى يوم القيامة، فلما كانت الخطيئة من آدم وحواء وأهبطا إلى الأرض من الجنة، بقي آدم ساجداً على الصفا أربعين يوماً يبكي على الجنة وخروجه من جوار الله، وبقيت حواء على المروة تبكي على خطيئتها، فنظر إليهما الرحمن بنظر الرحمة فأنزل قبة من نور في موضع البيت الحرام بحذاء البيت المعمور فسطع نور القبة على جبال مكة فهو محل الحرم اليوم.
وأمر الله جبرائيل أن يهبط إلى الأرض فيضع أعلام الحرم مع منتهى نور القبة، وأمره أن يمضي لآدم وحواء فيأتي بهما نحو القبة ليلوذا بها ويطوفا حولها، ففعل جبرائيل ذلك وأتى بآدم وحواء نحو القبة، فلاذا وطافا حولها كما كانت الملائكة تطوف بالبيت المعمور، ثم وقفا عند موضع المستجار فناديا بأعلى أصواتهما ربنا اغفر لنا خطيئتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، فنوديا إني قد غفرت لكما وتبت عليكم وأنا التواب الرحيم.
وأنزل الله الركن وهو ياقوته بيضاء آدم يجلس عليه وأمر سبعين ألف ملك أن يهبطوا إلى الأرض ليحرسوا القبة ويطوفوا حولها تعظيماً لها ويؤنسون آدم.
فبقي الملائكة على هذا الحال زمنا طويلا ثم سألوا الله تعالى أن يبني لهم بيتاً كهيئة البيت المعمور، فأوحى الله تعالى إلى جبرائيل أن اهبط إلى آدم وحواء فنحهما عن موضع بيتي وارفع قواعده لملائكتي ولخلقي من ولد آدم، فهبط جبرائيل إلى آدم وحواء ونحاهما عن موضع البيت فوضع آدم على الصفا وحواء على المروة، فقال آدم: يا جبرائيل أبسخط من الله حولتنا من موضع البيت وفرقت بيننا؟ فقال جبرائيل: لم يكن من الله بسخط عليكما، ولكن الله لا يُسأل عمّا يفعل.
يا آدم إن السبعين ألف ملك الذين أنزلهم الله ليؤنسوك ويطوفوا حول القبة ويحرسوها سألو الله أن يبني بيتاً كهيئة البيت المعمور الذي في السماء، مكان هذه القبة حتى يطوفوا به كما يطوفون بالبيت المعمور وقد أمرني أن أنحيكما وأرفع القبة، قال آدم وحواء: رضينا بتقدير الله.
وأقام جبرائيل أركان البيت المعمور حيث أوحى الله له أن يقتلع حجراً من الصفا وحجراً من المروة وحجراً من طور سيناء وحجراً من جبل السلام وهو ظهرُ الكوفة فاختلعها جبرائيل بجناحه ووضعها حيث أمر الله في هذه الأركان في قواعد قدرها الله سبحانه وتعالى.
وكان هذا هو أول بناء وتأسيس للكعبة المشرفة، وأصبحت ملاذ لولد آدم وملاذ للعابدين والعاشقين لقدس الله واللآئذين به ، وقال تعالى فيها: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ فجعلها آماناً لكل البشرية.