كشكول الوائلي _ 36

img

السجود على التربة

وكربلاء لا نتعامل معها على أنها تربة دفن فيها الحسين عليه السلام  فقط، بل إننا نتعامل معها بغير ذلك وإن كان بعضهم يحاول أن يثبت ذلك علينا متّهما إيانا بعبادة الصنم بإصرارنا على الصلاة على تربته مع أننا إن لم توجد التربة فإننا نصلّي على ورقة أو حصير أو أي نبات لا يؤكل، لكن حيث تتوفّر التربة الحسينية فإننا نفضّلها على غيرها وذلك لأسباب منها:

أوّلاً: أنها تمثّل البيئة التي مثّل فيها الحسين عليه السلام  أروع الخصال الكريمة، وأعطانا دروسا كاملة وناضجة في الصلابة والإيمان والدفاع عن العقيدة. فكانت بحّق تمثّل مدرسة متكاملة ـ وليست حجرا وتراباً دفن فيه الحسين عليه السلام  ـ حينما رسم عليه السلام  لنفسه ولقومه ولصحبه مصيره والدور الذي سيقوم به.

وهو تراب سيبقى كالكتاب يخزّن الذكريات، وهو ما نلاحظه عند كلّ الشعراء الذين وقفوا على تراب الحسين وخاطبوه، وهم في ذلك إنما يستلهمون منه المعاني المكتوبة في الوعي والأجواء النفسيّة التي يُقرأ فيها ما مثّله لنا الحسين عليه السلام  من الإباء والتضحية والشجاعة والصلابة وما جسّده على هذا التراب؛ فهو عليه السلام  قد جعلها تربة مميّزة تعيش في أذهاننا وليس بعيدا عنها. والدليل على ذلك أن أي شيعي في شرق الأرض أو غربها حينما تُذكر عنده كربلاء فإنه يقفز إلى ذهنه أنها وعاء كلّ تلك الخصائص التي ذكرناها ووعاء التضحيات الفذّة، ووعاء الموقف الحرّ، ووعاء الكرامة وكلّ ما اختار اللّه‏ له، أليس عليه السلام  هو القائل في خطبته: «وخيْر لي مصرع أنا لاقيه، وكأني بأوصالي هذه تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا»[1].

وهنا التفاتة دقيقة في التعبير الحسيني وهو قوله: «بأوصالي» أي بتقطّع جسمي، أمّا موقفي فلا؛ لأنه سيبقى على صلابته. وها هو أحد الشعراء يخاطبه قائلاً:

طلعت على الدنيا حساما مهنّدا *** فعاشتك حينا ثم عاشت على الصدى

تمجّد قومٌ بالخلود وإنني *** رأيت بمعناك الخلودَ مخلّدا

أيا واحدا من خمسة إن ذكرتهم *** ذكرت بهم في كلّ وجه محمدا

فلهذا اختاره اللّه‏ ليعيش بين جوانحنا وفي قلوبنا ووعينا ومشاعرنا، ولأنت كذلك ياسيدي يا أبا عبد اللّه‏. فنحن لهذا نختار التربة.

وثانيا: لأنها ترفع جباهنا في السجود عما يمكن أن يكون نجسا أو قذرا، وما هو كذلك لا يصحّ السجود عليه في واقع الحال.

وثالثا: أن مجرد نظرنا إلى التربة ـ مع امتلاكنا لوعي يحدّد لنا ماذا جرى في واقعة كربلاء ـ فإن أذهاننا تنصرف إلى المثل العليا والدماء التي سكبت عليها في واقعة الطف:

وفرجت الزمان عن خشعة الفجـ *** ـر على مهدك الزكيّ الضاحي

فرأيت النبيّ يفتضّ في سمـ *** ـعك آيات وحيه النفّاح

والبتول انتفاضةً تبعث الزهـ *** ـو حييّا في هاجر الأفراحِ

وعليا يريك أن قطاف الـ *** ـفتح يُستار من لهيب الجراحِ

هكذا لُحت قمة من كراما *** ت وموجا مزمجرا من طماح

ومدىً ليست الكواكب إلاّ *** نصبا في طريقه اللمّاحِ

إذن، هذا الاختيار من اللّه‏ للحسين عليه السلام  في الطفّ كان اختيار نهاية لحياته الجسديّة وليس ختاما لحياته المطلقة، فالحسين ما مات ولن يموت، لكن جسده اختار اللّه‏ له أن يقطّع أشلاءَ تضمّها هذه التربة التي قدّر لها أن تعيش في مشاعرنا. وها نحن نردّد مع أديب الطف:

لا تطلبوا قبر الحسـيـ *** ـن بشرقها أو غربِ

ودعوا الجميع وعرّجوا *** نحوي فمشهده بقلبي

يتبع…

___________________

[1]  اللهوف في قتلى الطفوف: 38، كشف الغمة 2: 239 .

الكاتب الادارة

الادارة

مواضيع متعلقة