الشرك ـ 2

img

المال يوم القيامة

قال‘: «يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها وماله بين يديه، كلما يكفأ به الصراط قال له ماله: امضِ، وقد أديت حق الله فيّ. ثم يجاء بصاحب الدنيا الذي لم يطع الله فيها وماله بين كفيه، كلما يكفأ به الصراط قال له ماله: ويلك ألا أديت حق الله فيّ. فما يزال كذلك حتى يدعو بالثبور والويل»([1]).

وقال‘: «يؤتى برجل يوم القيامة وقد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حرام فيقال له: اذهبوا به إلى النار. ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حرام، فيقال: اذهبوا به إلى النار. ويؤتى برجل وقد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حلال، فيقال: اذهبوا به إلى النار. ويؤتى برجل وقد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حلال، فيقال له: قف لعلك قصّرت في طلب هذا بشيء مما فرضت عليك من صلاة لم تصلها لوقتها، وفرّطت في شيء من ركوعها وسجودها ووضوئها، فيقول: لا يا رب، كسبت من حلال، وأنفقت في حلال، ولم أضيّع شيئاً مما فرضت. فيقال: لعلك اختلت في هذا المال في شيء من مركب أو ثوب باهيت به. فيقول: لا يا رب، لم أختل ولم أباهي في شيء. فيقال: لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. فيقول: لا يا رب، لم أضيع حق أحد أمرتني أن أعطيه. فيجيء أولئك فيخاصمونه. فيقولون: يا رب أعطيته وأغنيته وجعلته بين أظهرنا وأمرته أن يعطينا. فإن كان قد أعطاهم، وما ضيّع مع ذلك شيئاً من الفرائض ولم يختل في شيء، فيقال: قف الآن، هاتِ شكر نعمة أنعمتها عليك من أكلة او شربة أو لقمة أو لذة… فلا يزال يسأل».

وروي أنه قال رجل: يا رسول الله‘، مالي لا أحب الموت؟ «فقال: هل معك من مال؟» قال: نعم يا رسول الله. قال: «قدّم مالك أمامك، فإن قلب المؤمن مع ماله، إن قدم أحب أن يلحق به، وإن خلّفه أحب أن يتخلف معه».

احتجاج أبوذر الغفاري

حين رأى أبوذر ما قام به الخليفة الثالث في إيثاره أهله على المسلمين ومنحهم ما ليس لهم فيه حق صار يطوف في المدينة ويقرأ قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: 34 ـ 35].

فكان بعض المسلمين يقول له: إتق الله يا أباذر، واتق الفتنة في المسلمين. فيقول: وهل في تلاوة كتاب الله تعالى فتنة؟ حتى ضاق به عثمان وقبيلته ذرعاً فنفاه إلى الشام وكتب لوليه وابن عمه معاويه أن يتدبر أمره، فطلبه معاوية بعد وصوله، وكان يجلس في قتبته الخضراء بين زبانيته من أعيان الشام ومن بني أمية وأصحاب رسول الله‘ الذين آثروا الدنيا على الدين.

طلبه معاوية وهو في قصره الحديث، فلما دخل عليه جعل يتلفّت حوله ويمعن في فخامة البناء وفاخر الرياش ثم يقول: ما هذا يا معاويه؟ إن كان هذا من مالك فأنت مسرف ولعنة الله على المسرفين، وإن كان من مال الله فأنت خائن ولعنة الله على الخائنين، فلم ينبس معاوية ببنت شفة؛ لأنه يعلم منزلة أبي ذر ومكانته في الإسلام، والأمر الذي يمهد له بالخروج على الإسلام لا يزال غضاً وفي أوله، فلم يشأ أن يحدث في القوم الذين يشتريهم ليبيعوه دينهم مالاً عهد لهم به من قتل أولياء الله البررة حتى يخلص من رأسهم الكبير علي×، فصمت معاوية وعلم أن أباذر من دعاة محمد‘.

فأمر بإخراجه وإكرامه، ثم بعث له ببدرة من المال ليغويه بها على مرأى من زبانيته. وفي اليوم التالي حاول استرجاع المال على مرأى منهم أيضاً ليفضحه بإعلان قبول المال ولكن أباذر الزاهد في دنيا معاوية أبعد أن ينخدع؛ إذ فرّق المال على المعوزين قبل أن يبيت ليلته.

ولذلك أنبأ رسول معاوية وقال له: قل له أن المال وزّعناه؛ ثم نفاه معاوية إلى جبل عامل، فمكث برهة من الزمن أحال بها أهل الجبل إلى شيعة يتفانون في الحق ويشخصون بأبصارهم إلى الإمام علي وأهل بيته^.

ولما أعيت الحيلة معاوية، كتب لعثمان في شأنه وأنه أفسد عليه أمره، فطلب إليه عثمان أن يعيده فأعاده على رحل لا وطاء تحته ولا غطاء عليه، ووكّل به من لا تأخذه فيه رحمة حتى وصل المدينة وقد تهرأ جلده، وهو صابر محتسب يقول: سوف ألقي خليلي رسول الله وأشكو إليه ما لقيت بعده.

ولما دخل على عثمان وهو في رهط من قومه قال: السلام على من اتبع الهدى ثم عاد إلى شعاره وهو يقول: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ…﴾ فانتهره عثمان قائلاً: اتق الفتنة في المسلمين يا أباذر. فأعاد قوله: وهل في تلاوة قول الله فتنة؟ وبعد أن انتهى الحديث بينهما عمد الخليفة إلى تأديبه ورفسه برجله حتى وطأ خصيتيه على مرأى من القوم وهم لا يتحركون مع حفظهم قول رسول الله‘: «ما أقلت الغبراء ولا أضلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر».

ثم طرح خارج المسجد مغمى عليه، وصدر الأمر بنبذه إلى الربذة ومنع أهل المدينة من توديعه، ولكن خرج لوداعه علي والحسنان وعبد الله بن العباس. وصدق رسول الله‘ حين قال: «يا أباذر تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك»([2]).

ولما قالت: له بنته ستموت ولا أحد يواريك. قال: لا عليك، فقد قال لي رسول الله‘: «يحضر نفر من أهل العراق بمواراتك»، فقفي إذا متتُ على قارعة الطريق وقولي لهم. ففعلت، فدفنوه وأرادوا كفالتها، فقالت: عندي بيت، خذوني إلى كافل اليتامى. فأينك يا علي عن أطفالك ليلة الحادية عشر من المحرم.

___________

([1]) المحجة البيضاء 6: 42.

([2]) منهاج البراعة 8: 243 ـ 253.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة