العفو ـ 2

الرسول والأعرابي
روى أنس ابن مالك قال: كنت مع النبي‘ وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي من ردائه جذبة شديدة، حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه، وقال له بنبرات تقطر غضباً: يا محمد، إحمل لي على البعيرين هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك، ولا من مال أبيك.
فسكت الرسول‘ برهة، ثم انطلق قائلاً: «المال مال الله، وأنا عبده». ثم قال للأعرابي: «ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت؟» فقال: لا. فقال رسول الله‘: «لم؟ فقال: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة». فتبسم‘ وأمر بأن يحمل له على بعير شعير، وعلى الآخر تمر([1]).
ولفظة (ولي) هنا بمعنى الصديق، و(حميم) تعني في الأصل الماء الحار المغلي؛ ولذلك يطلق اسم الحمام على أماكن الغسل، ولذلك يطلق أيضاً على الصديق المخلص والمحب لفظ: حميم.
وأشارت الآية وإن لم يكن أن هذا الشخص هو كذلك في نفس الوقت إلا أنّه سيكون كذلك على الأقل.
كما أن هذا الأُسلوب في التعامل مع الأعداء ليس بالأمر الهيّن، وأن الوصول إليه يحتاج الى استعداد أخلاقي عميق؛ لذلك فإن الآية التي بعدها تبيّن الأُسس الأخلاقية لمثل هذا التعامل في تعبير قصير ينطوي على معانٍ كبيرة حيث يقول تعالى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 35].
أي على الإنسان أن يجاهد نفسه حتى يستطيع أن يسيطر على غضبه، قوي الروح متسلّح بالإيمان والتقوى، حتى لا يتأثر ببساطة عند إيذاء الأعداء، ولا يبقى عنده حب الانتقام، كما عليه أن يتجاوز مرحلة العفو ليصل إلى منزلة «دفع السيئة بالحسنة»، وأن يحتسب كل ذلك في سبيل الله تعالى بغية تحقيق الأهداف المقدسة.
كما أن التسلح بالصبر يعني وجود الأساس المتين لكل الملكات الأخلاقية الفاضلة.
نزغ الشيطان
كما أنه هناك موانع تحول دون الوصول إلى هذا الهدف العظيم وهو وساوس الشيطان؛ لذلك تخاطب الآية الرسول القدوة ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 200 ].
فلفظ (نزغ) تعني الدخول في عمل ما لإفساده؛ ولهذا السبب يطلق على الوسواس الشيطاني هذا الوصف.
وهذا التحذير بسبب ما يراود ذهن الإنسان من مفاهيم خطرة، حيث يقوم البعض بتوجيه نصائح الانتقام لا العفو والإحسان، فعند حصول ذلك ينبغي الاستعاذة واللجوء إلى الله تعالى.
لقد عرفتنا سيرة الرسول وأهل بيته، كيف نسير في هذا الطريق حتى يمكن أن نقدم لأنفسنا ما ينبغي أن نتحلى به.
______________