العفو ـ 1

مصطفي آل مرهون
«وإساءة الغير إليك»
من الصفات الكريمة التي تعنى بها الشريعة الإسلامية السمحة العفو عن المسيء، وقد صرح بذلك الكتاب الكريم والسنة الشريفة وسيرة المعصومين ومن سار على نهجهم.
يقول تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34].
ويعتبر هذا الأُسلوب من أبرز أساليب الدعوة الناجحة، خصوصاً حيال الأعداء والجهلاء والمعاندين؛ لأن كل من يقوم بالسيئة ينتظر الرد بالمثل، خاصة الذين هم من هذا النمط.
أما عندما يرى المسيء أن من أساء إليه لا يرد السيئة بالسيئة وحسب، بل يقابلها بالحسنة، عندها سيحدث التغيير في وجوده وسيؤثر ذلك على ضميره بشدة فيوقظه، وستحدث ثورة في أعماقه من جراء الإحساس بالخجل والحقارة أمام من ينظر إليه بعين التقدير والإكبار إلى من أساء إليه. وهنا ستزول الأحقاد من الداخل، ويبقى مكانها الحب والمودة.
كما أن هذا لا يمثل قانوناً كاملاً، وإنما هو صفة غالبة؛ لأن هناك أقلية تحاول أن تسيء الاستفادة من هذا الأسلوب ما لم ينزل بها العقاب الذي تستحق.
ولكن في نفس الوقت الذي ينبغي فيه استخدام العقوبه والشدة ضد هذه الأقلية، علينا أن لا نغفل عن أن القانون المتحكم بالأكثرية هو: إدفع السيئة بالحسنة.
الرسول في فتح مكة
لا يمكن أن ننسى ما كان عليه الرسول‘، وهو العمل بهذا الأسلوب القرآني العظيم. ففي فتح مكة مثلاً كان أعداؤه ينتظرون الانتقام وأخد الثأر من الكفار والمشركين والمنافقين الذين آذوا الرسول وأهل بيته والمسلمين بألوان العذاب في مكة وخارجها.
ولكن الرسول‘ الذي أقبل في ستة الآف وتسع مائة رجل، ونزلوا بالظهران على أربعة فراسخ من مكة أصابوا هناك أبا سفيان الأموي ومن معه، حيث خرجوا يبحثون عن الأخبار فأخذوهم إلى النبي‘، فأظهر أبو سفيان الإسلام في صباح تلك الليلة خوفاً من القتل.
ولما رأى القوة التي عند الرسول قال لرسول الله‘: يا رسول الله‘، أرأيت إن اعتزلت قريش وكفت أيديها أهم آمنون؟ وكان النبي يرغب أن يدخل مكة من دون أن تهرق قطرة من دم لتبقى حرماً آمنا، فقال‘: «نعم، من كفّ يده فهو آمن، ومن دخل دارك فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن».
فرجع أبو سفيان وأخبرهم بذلك، وصرخ سعد بن عبادة والراية بيده
اليوم يوم الملحمة *** اليوم تسبى الحرمة
أذلّ اللــه قريـــشــاً
فخفق قلب أبو سفيان، فكلّم رسول الله‘، فعزله رسول الله‘ وولّى مكانه علياً، فأخذ علي الراية ودخلوا مكة وهو ينادي:
اليوم يوم المرحمة *** اليوم تحمى الحرمة
أعــــز الله قريــــشاً
ونادى الرسول ‘: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فانبروا جميعاً بلسان واحد قائلين: خيراً، أخ كريم، وابن أخٍ كريم. فقال‘: «إذهبوا فأنتم الطلقاء»([1]).
وبرغم ذلك نرى الرسول‘ استثنى بعض الأشخاص من العفو العام ـ هذا كما نقله أصحاب السيرة ـ ؛ لأنهم كانوا خطرين ولم يستحقوا العفو النبوي الكريم الذي عبّر فيه رسول الله‘ عن خلق الإسلام ومنطق النبيين حينما قال: «لا أقول لكم إلا كما قال يوسف لإخوته ﴿قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 92]».
يتبع…
_________________