كشكول الوائلي _ 28

img

المأمون والموت

ولنذكر في هذا المجال قصة المأمون حينما حضرته الوفاة، وكان في طرطوس يقاتل الروم في جيش كبير له، فرأى عينآ صافية كأن ماءها الزلال، وتخرج منها أسماک صغيرة كسبائک الفضة، فأمر النجّارين أن يبنوا له عريشآ عليها كي يمتّع عينه بالنظر إليها، فلما بنوا له عريشآ جلس ينظر إلى البركة فخرجت سمكة بيضاء نضحته بالماء، فأحسّ برجفة، فقال: اُحس بقشعريرة البرد في جسمي، أرجعوني إلى الخباء، ولمّا أرجعوه اشتدّ عليه المرض وزادت الحمّى، فأرسلوا إلى الأطبّاء فلمّا قاسوا نبضه قالوا لهم: إنه لن يعيش هذه الليلة، فنبضه ينذر بالفناء.

فلما سمع المأمون ذلک قال: أخرجوني لأنظر إلى الجيش، فلما أخرجوه ورأى جيشه يملأ الربى رفع رأسه إلى السماء وقال: يامن لا يزول ملكه، ارحم من يزول ملكه.

وهذا المصير كلٌّ منّا يمرّ به ويقع تحت تأثيره إلّا من رحم الله منّا، وهم اُولئک الذين يملكون الثقة بالله والذين يعرفون أنهم إنما يتركون الدنيا وما فيها إلى ما هو أفضل عند الله وأجزل وأسمى، وهو رضا الله جلّ وعلا. ونحن نردّد في الدعاء: «اللهمّ لا تخرجنا من هذه الدنيا حتى ترضى عنّا».

أي اللهمّ اجعلنا متّجهين إليک ومروّضين أنفسنا على هذا الواقع الذي يقول بأن ما عند الله أسمى، وإلّا فإن المال والولد لا يستطيع دفعآ عن الإنسان إذا جاء أمر الله من مرض أو ألم أو ضيم، وليس يقدر على ذلک سوى الله الذي يجير ولا يجار عليه.

فالإنسان تارة يكون من النوع الذي يخرج من الدنيا برمآ لما يترک خلفه من مال وولد وأسباب الكمال التي عنده في الحياة، وتارة يكون من النوع الذي يخرج من الدنيا طيّب النفس لعلمه بأنه وافد على الله جلّ وعلا. يقول سلمان المحمدي (رضوان الله عليه) :

وفدت على الكريم بغير زاد *** من الحسنات والقلب السليمِ

فيجيبه الإمام (عليه السلام) :

«وحمل الزاد أقبح كلّ شيء *** إذا كان الوفود على كريمِ»

فهؤلاء تتوفّاهم الملائكة ونفوسهم طيّبة؛ فلذلک يتركون الدنيا راضين مرضيّين ثقة منهم بأنهم سينتهون إلى عالم أفضل.

يتبع…

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة