الذكر ـ 1

img

مصطفى آل مرهون

الخامسة والسادسة: «يا بني واذكر اثنتين: ذكر الله، والموت»

يقول تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152].

وهي من الآيات الدالة على لطفه تعالى بذاكريه، وهي من آيات أصول التربية والتعليم.

والمراد بالذكر: الالتفات الفعلي إليه تعالى قلباً وقولاً وعملاً، ويتحقق بتذكر نعمه تعالى، وإدمان الشكر عليها، والطاعة والعبادة له، وإتيان ما اختاره الله تعالى مما فيه السعادة في الدارين، فإن الالتفات إليه عز وجل كذلك مبدأ العبودية المحضة المنتهية إلى الكمال المطلق لما ثبت في الفلسفة العملية من أن آخر مقام الفناء في مرضاته تعالى أول مقام البقاء به عز وجل، وأن آخريات درجات التحلي مبشرات لأوليات مقام التجلي؛ وذلك لأن أنس النفس بالكامل بالذات والكمال المطلق، والخير المحض العام، والفيض الأقدس التام يوجب ترقي النفس وتعاليها عن حضيض البهيمية حينئذٍ إلى أوج الكمالات الحقيقية، وكلما ازداد الأنس ازداد الإرتقاء، وأساس هذا الأنس يدور مدار الإلتفات الفعلي إليه عز وجل كما يريده تعالى، وهو المعبر عنه (بالذكر) في الكتاب والسنة الشريفة، وبعبارات مختلفة أخرى: كالتوجه، والتقرب، والتولية وغيرها.

والمناط كله أمران

الأمر الأول: الالتفات الفعلي إلى الله تبارك وتعالى المعبر عنه في الفقه «بالقربة»، كما يعبر عنه علماء الأخلاق «بالحضور والتوجه» ونحو ذلك.

الأمر الثاني: كون ما يذكر به الله عز وجل مأذوناً فيه من قبله تعالى، فقد ورد الإذن فيه في الشريعة المقدسة بشرائطه المعينة التي لابد من مراعاتها كما فصلها الفقهاء، فكل ما يكون مرضياً لله تعالى ويؤتى به لوجهه عز وجل فهو ذكر الله تعالى، سواء أكان من العقائد أم الأخلاق الحسنة، أم العبادات والمعاملات، أم غير ذلك، فإن ذكره تعالى ـ كرحمته ـ وسع كل شيء إذا لوحظ فيه التوجه إليه، وقد جعله تعالى بهذه التوسعه تسهيلاً لوصول عباده إليه عز وجل. وما ورد في الفلسفة العملية من: «أن الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق» فيه إشارة إلى ما ذكرناه، فكما لا حد للمذكور كذلك لا حد لمراتب الذكر.

مراتب الذكر

المرتبة الأولى: الذكر اللفظي كالتسبيح والتحميد والتهليل والشكر لنعمائه. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الاحزاب: 41 ـ 42].

ولما كانت عوامل الغفلة في الحياة المادية كثيرة فلا طريق لمحاربتها إلا بذكر الله؛ إذ معنى الذكر الكثير التوجه إلى الله سبحانه بكل الوجود لا باللسان فحسب. حتى يأتي النور في كل أعماق الإنسان فيغمرها بالضياء، ولذلك جاء الأمر إلى كل المؤمنين.

ولقد سئل النبي‘: أي العبادة أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ فقال: «الذاكرون الله كثيراً». قال أبو سعيد: فقلت: يا رسول الله، ومن الغازي في سبيل الله؟! قال: «لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون أفضل درجة منه»([1]).

وقد فسرت بعض الروايات الذكر بتسبيحة الزهراء÷، والمراد من الاية الكريمة أن المراد من تسبيح الله في كل غداة وعشي هو استمرار التسبيح، وذكر هذين الوقتين بالخصوص باعتبارهما بداية اليوم ونهايته، وما فسرهما به البعض من أن المراد صلاتي الصبح والعصر أو أمثال ذلك، فهو من قبيل ذكر المصداق أيضاً. وإلا التقديس والذكر غذاء للروح، كما أن الطعام والشراب غذاء للانسان.

ويقول تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35]. فلابد من إزاحة حجب الغفلة والجهل، وإبعاد النفس عن همزات الشياطين ووساوسهم، كما ينبغي التعاون بين الذكر والأنثى على ذكر الله تعالى. وفي الحديث عن الرسول‘: «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فتوضأا وصليا كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات»([2]). وعن الإمام الصادق×: «من بات على تسبيح فاطمة÷ كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات»([3]).

كما أن هذه الفئة يغسل الله ذنوبهم التي لوثت أرواحهم بماء المغفرة، ويعطيهم الثواب العظيم.

وكما أن عظمة هذا الثواب لا يمكن أن يحد لأنه عطاء من العظيم سبحانه، فكذلك عبّرت الآية بلفظ الماضي في (أعد)، وهو بيان لحتمية هذا الأجر والجزاء.

المرتبة الثانية: الذكر العملي وهو: العبادة والطاعة والأفعال المرضية له تعالى كالجهاد وعيادة المرض، وتشييع الموتى، والسعي في قضاء حوائج الإخوان وغير ذلك.

يتبع…

________________

([1]) سنن الترمذي 5: 127/ 3436.

([2]) تفسير مجمع البيان 8: 159.

([3]) تفسير جوامع الجامع 3: 64.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة