تأملات قرآنية ـ تأملات في سورة الكوثر ـ 1
الأستاذ صالح السعود
تأخذ سورة الكوثر شكل التوقيع العسكري بين الحاكم والقائد ، وتتشكل –على قصرها – في ثلاث محاور رئيسية تغطي مثلث الصراع الدائم بين الحق والباطل وبين الرب والمربوب.
وهي تعبر عن الاحتقان النفسي الذي يصيب القادة عند تعرضهم للاستهزاء والاستخفاف والسخرية والاستصغار .. فتأتي هذه السورة منفَساً سريع المفعول في علاج كلومهم.
وتعالج – فيما تعالج -حالة الكبت الذي يعانيه الدعاة إلى الله ، في محاولة إقصائهم وبتر رسالتهم واستئصال دعوتهم، فتأتي السورة الكريمة معلنةً اندحار الباطل أمام الحق.. فمن كان مع الله كان الله معه ( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) {المجادلة:21}
وهذه السورة الكريمة من السور الزاهية التي تدفع قارئها إلى التفاؤل ومواصلة العزم بعزة الله وعونه.
(إنا أعطينا الكوثر)
يبدأ المحور الأول من لدن المكان السامي ( إنّا )، ويعدل من (سأعطي محمداً..) إلى (إنّا أعطيناك الكوثر) مشيراً إلى عظمته وجلاله ورعايته سبحانه من جهة، ومعززاً ومقوياً للمتلقي من جهة أخرى، حينما يكون محلاً للهدية و(العطية).
ورغم أن العطية قد قدمت إلى قائد الإنسانية محمد بن عبد الله (إنا)، إلا أن العدول من (أعطينا محمداً) إلى (أعطيناك) توسيعاً لرقعة العطاء الإلهي لكل المتلقين المؤمنين بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمحبين له، وتوجيهاً لهم ليتعلقوا بضمير محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو ضمير الإنسانية بل (رحمة للعالمين) جميعاً.
(الكوثر)
و(الكوثر) تحمل أبعاداً دلالية واسعة، تعبر عن كل شيء كثير في الكمية، عظيم في النوعية، وتتناول خيرات الدنيا والآخرة، فهو مبالغة في كثرة النعم والعطايا.. أُفيضت بعد المبالغة في العظمة، أي (إن العظيمَ العظيم أعطاك الكثيرَ الكثير)، بل أعطاك من كل خير أكثره وأفضله وأنفعه وأبقاه..
وإذا كان (الكوثر) نهرا أو حوضا في الجنة –كما أشارت إلى ذلك الروايات -فإنه قد يعبر عن ماء الحياة، وسر بقائها (وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) {الأنبياء:30}، كما أن الماء دليل الطهارة والصفاء والامتداد والتتابع..
على أن (الكوثر) الذي ناله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أكبر من أن يتصوره بشر، أو أن يحيط به ملك مقرب أو نبي مرسل، وإن أدركنا بعض مصاديق ( الكوثر )، وطمعنا أن ننال من رشحاته.
ولعل لكل قارئ (كوثر) خاص يتمناه ويسعى لتحققه، وبإمكانه عند التعرض لهذا العطاء (إنا أعطيناك) أن يرسم آماله كلها، كبيرها وصغيرها، قريبها وبعيدها، يجدْها بين يديه ثقةً بعطاء العظيم (إنا أعطيناك الكوثر)
وهكذا ينتهي الركن الأول من السورة الكريمة، حياةً يعيشها المتلقي عطاءً إلهياً وافياً، لا نهاية له إلا عند الكوثر..
ـ يتبع ـ