تأملات قرآنية ـ تأملات في سورة الناس ـ 3

img

الأستاذ صالح السعود

في مقابل الأمر الغيبي الإيحائي (قل أعوذ)، يكمن للناس إيحاء مناهض (الوسواس الخناس) في معركة صاخبة، تحيط بهم من كل جهة، حتى تستقر في صدورهم، وتطفئ وهج الحق من أرواحهم.

(الذي يوسوس)

حيث يتحول (الوسواس) إلى حدث مضارعي (يوسوس)، يحمل في أحشائه الفاعل (يوسوس الوسواس)، حينها يبدأ في شن حربه الماكرة، والتحرك الفعلي نحو الهدف، والهدف هنا هو..

 (في صدور الناس)

فهذه الطبيعة الحركية الخبيثة، تأخذ مداها عبر الولوج إلى الداخل (في صدور الناس) ليدمرها، بعدما كانت المركز الرئيسي للتفكير وتوجيه القوى البشرية، المؤهلة لحمل البينات؛ (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم). (العنكبوت 49)

(من الجنة والناس)

وما يزيد هذه الحرب الغاشمة خطورة وتدميرا، نوعية العُدد والقوى المحاربة، فهي هنا (الجنة والناس) فهي حرب ثنائية، في معسكرين متشابكين، وجنبتين متاغيرتين، تبدأ من الجنة التي تمثل الجانب الغيبي إلى الناس التي تمثل الجانب الحضوري الشهودي.

ولعل في البدء بالجبهة الغيبية، زيادة في التحصين، وتعبئة للمسعيذ ليكون على أهبة الاستعداد والمواجهة، على العكس من مواجهة الأنبياء (..شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا). (الأنعام 112)

وربما كانت (الجِنة) مشتقة من الجن، الذين يمثلون الصراع القديم المتجذر في تاريخ البشرية، ويعينهم على هذه المعركة الحامية اتباع جنسهم (الناس) وهنا تتم الخديعة المضاعفة، فالمستعيذ في معركة شمولية،  ليس بها هوادة.

تعبأ بشتى الوسائل الإعلامية والدعائية وقنوات التواصل.. في البيت، والعمل، والسوق، وتتسلل حتى في محراب الصلاة، فتوسوس وتنخر في القلوب.

كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام:”اتّخذوا الشيطان لأمرهم مِلاكاً، واتّخذهم له أشراكاً. فباض وفرّخ في صدورهم. ودبّ ودرج في حجورهم. فنظر بأعينهم ونطق بألسنتهم. فركب بِهم الزَّلل وزيّن لهم الخَطَل، فِعْلَ من قد شَرِكَهُ الشيطان في سلطانه ونطق بالباطل على لسانه”. نهج البلاغة، الخطبة 7

فهو وسواس مخادع، يتغلغل حتى ينفذ في صدور الناس، حتى مع الأهل والأصدقاء، فضلا عن الأعداء (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) [التغابن 14].

فعلى المستعيذ أن يتقي هذه الخديعة المضاعفة، فهو في معركة غاشمة، تقع بين المستعيذ والوسواس، عتادها من طرف المستعيذ إحداث القول والفعل للاستعاذة، وحسن الإضافة للرب والملك والإله، وفي الطرف المقابل هناك الوسواس، ويبدو ضعفه وقوته في المراوغة والخديعة والتمويه، ووقودها الجنة والناس.

وهكذا ترسم هذه السورة المباركة نهاية المصحف الشريف، نهاية الحدر والأهبة، في معركة تطارد المتلقي في كل تحركاته، وتنفذ إلى أصول تفكيره ومركز إرادته، وخطورة هذه المعركة أنها معركة دائمة خفية مختلطة داخلية، وخطورتها الكبرى أنها تفتك بالناس من الداخل دون أن يشعروا لها، وإذا غفل المستعيذ لحظة، تغلغل في صدره ونفذ إلى قلبه فخفت ضياء الحق في روحه، وإذا استمد العون من الله سبحانه، وهبته الطاقة، ليستأنف القرآن الكريم من جديد..

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة