تأملات قرآنية ـ تأملات في سورة الناس ـ 1
الأستاذ صالح السعود
بسم الله الرحمن الرحيم
قد تبدو سورة (الناس) للوهلة الأولى هادئة بسيطة، معدودة الكلمات، محدودة المعاني.. ولكن حين يغوص المتأمل في آياتها يجدها عميقة الأغوار، مكتظة المداليل، صاخبة الحركة، متعاكسة التيارات.. كما الناس تماماً.. بين منظر جوي لملايين البشر، ومنظر داخلي في مخابئ نفوسهم.
(قل)
افتتحت السورة الكريمة بفعل أمر (قل)، تبرز فيها جهتان، آمر ومؤتمر، يبدو فيهما الترابط والتواصل، لكن بين عالمي السماء والأرض، بين الغيب والشهادة، بين البطون والظهور!
وعلى الرغم من أن القائل يستطيع اختزال (قل) في ذهنه، والبدء بـ: (أعوذ برب الناس)، إلا أن السورة تستحضر الفعل، لتؤكد الارتباط الوثيق بين الآمر والمؤتمر، والانقياد المطلق لأوامر السماء، وإن خالفت الظاهر المعهود.
(أعوذ)
وكلمة (أعوذ) بمعناها اللغوي يعني ألتجئ وأرجع، وكأن الفاعل يرجع مرة أخرى لـ(قل)، ليكون هو الفاعل للقول، وهو ذاته الفاعل للاستعاذة، (قل) أنت، أنا (أعوذ).
ومن هذه الثنائية الخارجية، تتجرد من داخل نفس المستعيذ شخصية داخلية تنازعه وتصارعه الاستعاذة، أو الاستغناء، فهل يطيع نفسه الغائبة الحاضرة، أم يطيع الآمر!؟
وبهذا التداخل الثنائي تدخلنا السورة الكريمة في عوالم متداخلة متشابكة.
يزيدها استخدام الفعل المضارع (أعوذ)، دلالة على استمرار الحدث ودوامه وتكراره، (قل أعوذ) على الدوام، وعند كل حدث، ومع كل حركة.
(برب الناس، ملك…)
ثم يتجلى المستعاذ بصفات متنوعة (رب، ملك، إله)، لكنها لذات واحدة مقدسة. مضافة إلى (الناس) الذين هم واحد في عنوانهم، إلا أنهم متنوعون في أفكارهم وتوجهاتهم، وطموحاتهم، ومخاوفهم.
ومع أن المستعيذ واحد من (الناس)، إلا أنه مستعيذ منهم (من الجنة والناس)، فهو القائل وهو المستعيذ وهو المستعاذ منه.
وكذلك (الناس) في المفهوم القرآني، فهم ـ فيما يبدوـ مجموعة عامة من البشر متنوعة الأفكار والرؤى.
ورغم هذه الإضافة التشريفية التي اختص بها (الناس) دون غيرهم من (العالمين)، إلا أنهم يبدلون هذه النعمة إلى التمرد والصراع الداخلي والخارجي، تغافلا منهم عن عطائه، واستخفافا بسيطرته، واستنكافا عن طاعته…
ـ يتبع ـ