الظلم _ 4

مصطفى آل مرهون
قال المنصور يوماً لعبد الله الأفريقي: كيف سلطاني من سلطان بني أمية؟ فقال عبد الرحمن: ما رأيت في سلطانهم شيئاً من الجور إلا رأيته في سلطانك. وكان عبد الرحمن هذا من أهل أفريقيا يطلب العلم مع المنصور قبل الخلافة، فلما ولي المنصور وظهر الجور في عهده قدم عبد الرحمن على المنصور فأقام ببابه شهراً لا يمكنه الدخول عليه، فلما أذن له بالدخول قال له المنصور: ما أقدمك؟ فأجاب: ظهور الجور في بلادنا، فجئت لأعلمك؛ فإذا الجور يخرج من دارك، ورأيت أعمالاً سيدي وظلماً فاشياً فظننته لبعد البلاد عنك، فجعلت كلما دنوت منك كان الأمر أعظم. فغضب المنصور وأمر بإخراجه.
ولما حج المنصور في السنة التي مات فيها، فبينما هو يطوف بالبيت؛ إذ سمع قائلاً يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع.
فخرج المنصور في ناحية من المسجد ودعا بالقائل، فسأله عن قوله. فقال: يا أمير، إن أمنتني أُنبئتك بالأمور على جليتها. فقال: أنت آمن على نفسك ومالك. فقال: الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله هو أنت. فقال: ويحك، فكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء عندي؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لأن الله استرعاك للمسلمين وأموالهم، فجعلت بينك وبينهم جماراً من الحصى والآجر، وأبواباً من الحديد وحجاباً معهم من الأسلحة، وأمرتهم أن لا يدخل عليك فلان وفلان، ولم نأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الضعيف ولا الفقير ولا الجائع ولا العاري وما منهم إلا وله في هذا الحال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك تجبي الأموال فلا تعطيها وتجمعها فلا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله تعالى، فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا نفسه. فاتفقوا على أن لا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل إلا أقصوه ونفوه حتى تسقط منزلته، فلما اشتهر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وحابوهم، فكان أول من صانعهم عمالك في الهدايا ليقود بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القوة والثروة لينالوا بهم ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلماً وفساداً، وصار هؤلاء وشركائك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول عليك، فإن أراد رفع قصته إليك وجدك قد منعت من ذلك، وجعلت رجلاً للمظالم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه وهو يدافعه خوفاً من بطانتك، وإذا صرخ بين يديك ضرب ليكون نكالاً لغيره، وأنت تنظر ولا تفكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟!
ورغم هذه الأعمال وما اتضح للناس من سوء سيرته واجحافه بحقوق الناس فقد كان يحال أن يصبغ دولته بصبغة دينية، وأنه الوارث الشرعي لهذا الحق، وهو القائم بالعدل.
وكان يقتل علماء الحق ويبعدهم ويريق دماء أبناء رسول الله ويملأ السجون منهم، بينما نراه يحتفظ بحصيرة بالية قد مرت عليها السنين يقال إنها كانت لرسول الله|، فيتبرك بها أمام الناس ليظهر لهم أنه محافظ على آثار النبي تمويهاً وخداعاً.
وكان يطلب من الزهاد والوعاظ أن يعظوه بمجلسه، فيرق عند سماع الوعظ ويبكي بدون اتعاظ وتجري دموعه ولكن بغير خشوع، بل من باب كف تديح وأخر تسبح، إلى غير ذلك من إغرائه للناس ليغطي أعماله التي ارتكبها.
وقد تحمل الإمام الصادق من طاغية زمانه أكثر مما تحمله من خصومه الأمويين، ولكنه لم تهن عزيمته، وسار في نهجه الذي نهجه لنفسه من الدعوة الى الله ومناصرة المظلومين وإعلان الغضب على المنصور ووجوب مقاطعته وعدم المؤازرة له والمعاونة معه؛ لأن حكومته غير شرعية، فهو حاكم جائر وظالم مستبد.
وكان يوصي أصحابه يقول: إياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم فيدعو عليكم فيستجاب له فيكم، فإن أبانا رسول الله كان يقول: «إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة»، وليعن بعضكم بعضاً، فإن أبانا رسول الله| كان يقول: «معونة المسلم خير وأعظم أجراً من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وقام من أعان ظالماً على مظلوم لم يزل الله عليه ساخطاً حتى ينزع عن معونته».
وعلى أي حال، فإن المنصور الدوانيقي كان سيء السيرة مع أبناء علي×، وقد قابل الإمام الصادق بكل جفاء وغلظة وتشدد في أمره، وحاول الفتك به مراراً حتى حان الوقت وحل الأجل، فدس إليه السم وقضى عليه.
يتبع…