الظلم _ 2

مصطفى آل مرهون
وكانت محاولة المنصور لجلب شخصية الإمام إليه وطلب الاتصال به تضيّق دائرة المقاطعة التي أعلنها الإمام الصادق، والتي سار عليها كثير من الناس، وذلك اقتداءً بقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم): «أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر»([1]).
دخل عبد الله ابن طاووس اليماني على المنصور ومعه مالك ابن أنس، فقال المنصور: حدثني عن أبيك. قال: حدثني أبي: إن اشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في سلطانه، فأدخل عليه الجور في حكمه. فأمسك المنصور. قال مالك: فضممت ثيابي خوفاً من أن يصيبني دمه، ثم قال المنصور: ناولني الدوات. فلم يفعل. فقال: لِم لم تناولني الدواة؟ فقال: أخاف أن تكتب بها معصية. فقال المنصور: قوما عني. فقال عبد الله: ذلك ما كنا نبغيه. قال مالك: فمازلت أعرف فضله.
ودخل مالك هو وابن أبي نؤيب وابن سمعان على المنصور عندما ولي الخلافة، وكان منظر المجلس يملأ القلب رعباً كما يحدث مالك ويصف ما دخله من الخوف عندما نظر إلى الجلاوز يحملون السلاح. فألقى المنصور سؤالاً مشتركاً، فقال بعد كلام طويل: أي الرجال أنا عندكم، أمن أئمة العدل أم من أئمة الجور؟ فقال مالك: أنا متوسل إليك بالله تعالى، وأتشفع إليك بمحمد| وبقرابتك منه ألا أعفيتني من الكلام في هذا. قال: قد أعفيناك، ثم التفت إلى ابن سمعان فقال له: أيها القاضي ناشدتك الله تعالى، أي الرجال أنا عندك؟ فقال ابن سمعان: أنت والله خير الرجال، والله يا أمير تحج بيت الله الحرام، وتجاهد العدو، وتؤمن السبل، ويأمن الضعيف بك أن يأكله القوي، وبك قوام الدين، فأنت خير الرجال وأعدل الأمة. ثم التفت إلى أبي ذؤيب فقال له: ناشدتك الله، أي الرجال أنا عندك؟ قال: أنت والله عندي شر الرجال، استأثرت بمال الله ورسوله وسهم ذي القربى واليتامى والمساكين، وأحلكت الضعيف، واتعبت القوي، وأمسكت أموالهم، فما حجتك غداً بين يدي الله؟!
فقال أبو جعفر: ويحك، ما تقول انظر ما أمامك. فقال: نعم رأيت أسيافاً، وإنما هو الموت ولابد منه عاجله خير من آجله، وخرج آمناً لم ينله شيء.
أما مالك فبقي عند المنصور، وياليته أجاب بجواب وسط، وكيف يجيب وهو يعيش على بساط الدولة ويشغل وظيفة القنطار ويتمن بقاء المنصور.
ويعد أيام الشهور *** ليوم تعداد النقود
بل ولم يحدثنا التأريخ بموقف مشهود له تتجلى به شجاعته وإقدامه كغيره من العلماء الذين واجهوا المنصور في أحرج المواقف، كعبد الله ابن مرزوق عندما التقى بالمنصور في الطواف وقد تنحى الناس عنه، فقال له عبد الله: من جعلك أحق بهذا البيت من الناس تحول بينه وبينهم وتنحيهم منه؟ فنظر المنصور في وجهه فعرفه فقال: يا عبد الله، من جرأك على هذا، ومن أقدمك عليه؟ فقال: وما تصنع بي، أبيدك ضرراً أو نفعاً؟ والله ما أخاف ضرك ولا أرجو نفعك حتى يكون الله عزوجل هو الذي يأذن لك فيه. فقال له المنصور: إنك أحللت بنفسك وأهلكتها. فقال عبد الله: اللهم إن كان بيد أبي جعفر ضري فلا تدع من الضر شيئاً إلا أنزلته عليّ، وإن كان بيده منفعتي فاقطع عني كل منفعة منه، أنت يا رب بيدك كل شيء، وأنت مليك كل شيء. فأمر به فحمل إلى بغداد، فسجن ثم أطلق.
___________________________
([1]) انظر: الكافي 5: 60 / 16. وسائل الشيعة 16: 127 / 21152.
يتبع…