كشكول الوائلي _ 6

img

المهاجر الليثي…

نعم، إن في تأريخنا من يستحقّ الفخر به. وإليک واحدآ من هذه النماذج، فعندما نزل قوله تعالى: “الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا“، أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعرضها على مسلمي مكّة ممّن لم يتمكّن من الهجرة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا قُرئت هذه الآية على أحد الصحابة من بني ليث قال: والله لا أبيت ليلة واحدة في مكّة بعد الذي سمعته من هذه الآية. وكان هذا الرجل مُسنَّآ فطلب من أولاده أن يحملوه ويذهبوا به، فحملوه حتى وصلوا به إلى «التنعيم» فأدركته علائم الموت، فبسط إحدى يديه وضرب بالاُخرى عليها وقال: اللهم بيعة لک ومثلها لنبيک، اُبايعک على ما بايعک عليه رسولک. ثم أطبق جفنيه ولحقت روحه بربه.

فلما بلغ الخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ترحّم عليه، ثم نزل قوله تعالى: “وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرآ إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ عَلَى اللّهِ“.

فنحن نعتزّ تمام الاعتزاز عندما نجد في التأريخ مثل هذه النماذج الرائعة، وهناک فيتأريخ الكتاب إيجابيات كثيرة كالإيجابيّات المعرفيّة وغيرها.

سلبيّات تاريخ الكتاب

فنحاص اليهودي…

أما سلبيّات تأريخ الكتاب فأوّلها نبش الدفائن، وهذه الظاهرة استغلّها اليهود، فممّا يذكر في هذا الباب أن فنحاص بن عازورا أحد رؤساء اليهود مرّ يومآ فوجد الأوس والخزرج جالسين متصافين متسالمين وبينهم البسمات المتبادلة، فلم يرُق له ذلک، فجلس عندهم فقال لأحد رجال الأوس: أتذكر لمَّا حدثت بينكم وبين الخزرج معركة فقام شاعر الخزرج وشتمكم فقال فيكم كذا وكذا؟ ثم التفت إلى الخزرج وقال: أتذكرون ما حدث بينكم وبين الأوس فقام شاعر الأوس فشتمكم وقال فيكم كذا وكذا؟ وأخذ يُذكّر كلّاً من الطرفين بما يثير الحميّة في نفسه حتى صاح أحدهم: يا للأوس، وصاح الآخر: يا للخزرج. فتداعوا إلى السلاح حتى أوشكوا أن يتقاتلوا. فبلغ الخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج إليهم وقال: «أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها جاهليّة منتنة».

فهذه أوّل السلبيّات التي يمكن أن تكون في التأريخ، ونحن نستطيع أن نتجاوز مثل هذه السلبيّة بأن نضع أيدينا على ما هو إيجابي في التأريخ وندع ما يؤدي إلى التفرّق. وهذا في غير الاُمور المتعلّقة بالدين والعقيدة، فما كان منها متعلّقآ بالدين والعقيدة فنحن ملزمون بأخذه وليحدث ما يحدث: «أخوک دينک فاحتط لدينک». فلو كانت هناک رواية لها علاقة بحكم شرعي ولا يأخذ بها غيري فلا علاقة لي به لأنني معذور أمام الله، أما ما يؤدّي إلى الأحقاد من شواهد وأحداث التأريخ فيمكن تركه إذا لم يضرّ شيئآ بالدين والعقيدة.

ومن سلبيّات التأريخ أيضآ قلب الحقّ باطلا والباطل حقّآ لغفلة، فمثلا يروي أحد الصحابة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إن الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه». فالميت تجبذه الملائكة جبذآ أو تلكزه لو ندبته زوجته فقالت: وازوجاه أو واعزيزاه. فوصل خبر الرواية إلى السيدة عائشة فقالت: غلط الراوي إنما هذه الرواية كانت في يهودي مات ومرّ أهله يحملونه ويبكون عليه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن هؤلاء يبكون عليه وهو يعذّب».

وروى أبو هريرة مثلا أن الله عذب امرأة في هرّة حبستها فلا هي سقتها وأطعمتها ولا هي تركتها، فلما دخل على عائشة قالت له: يا أبا هريرة أنت الذي تحدّث أن امرأة عُذّبت في هرّة لها ربطتها لم تطعمها ولم تسقِها؟ فقال: سمعته منه، يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فقالت عائشة: أتدري ما كانت المرأة؟ قال: لا. قالت: إن المرأة مع ما فعلت كانت كافرة، إن المؤمن أكرم على الله من أن يعذّبه في هرّة، فإذا حدّثت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانظر كيف تحدّث.

يتبع…

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة