تأملات قرآنية، تأملات في سورة العصر 1

img

الأستاذ صالح السعود

يدرك (الإنسان) صراعه الدائم مع الزمن (العصر)، ومحاولاته المستميتة في السيطرة عليه واستغلاله لصالحه، منذ عصره الحجري إلى عصره الذري وما بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

والعصر
هذا الصراع تثيره السورة الكريمة بمطلع قَسَمي (والعصر) بما تحمله كلمة (العصر) من رهبة زمانية ومعنوية تضغط على (الإنسان)، ليستشعر أهمية (العصر) في واقعه، وأثره في تكوين شخصيته، وسير حياته.
وبالقسم واليمين المغلظة المكتنزة في كلمة واحدة (والعصر)، يكتفي السياق في استثارة (الإنسان)، ليُدخله – مباشرة -في جواب قسم حاسم، يُخرجه من تجربته مع الزمن (العصر) بهزيمة ساحقة (إنّ الإنسان لفي خسر)
إنّ الإنسان لفي خسر
وهذه العبارة المفصّلة، ترمي إلى تأكيد حالة (الخسر) بجميع مداليلها، فكل إنسان – قسماً بالعصر -مغموس في الخسر محاط به من كل جهة .
وهذا ما يرسمه لنا القرآن الكريم بالتفصيلات المؤكدة، حيث تتقدم الآية الكريمة بـ(إنّ) المؤكدة على صدق الخبر وثباته، ثم ابتدأت بـ(الإنسان) حيث هو الهدف، وجعلته عاما (الإنسان)، بما تحمله هذه الكلمة من عموم الجنس الإنساني.
وهذا الابتداء المؤكد، المحمل بالصراع، يخبر عنه بتأكيدات متوالة، تبدأ بـ(لـ) التأكيد المزحلقة، الداخلة على (في) الظرفية التي تفيد التغلغل والعمق والإحاطة، يلحقها (خسرٌ) منكّر عامّ شائع.. لتدل على أن (الخسارة) مؤكدة، وأن (الإنسان) محصور داخل حدود ( الخسر ) بكل أبعاده ..
وهنا يشعر المتأمل بحرجيّة (العصر) الذي يعيشه ويشغل به حياته، تهزّه من وجدانه، وتصيبه بالانهيار، وتجعله يوقن بضياع كل شيء أمامه، بل بضياعه هو نفسه (إن الإنسان لفي خسر) بل لسان حاله (أنا الخاسر)! (ومن يكون أسوأ حالا مني إن أنا نقلت على مثل حالي إلى قبر لم أمهده لرقدتي)
وذلك ما لا ينكره أحد من البشر، فالإنسان يستهلك وجوده مع كل نفَس يتنفسه، ومليارات البشر يضيعون أوقاتهم (وهي رأس مالهم) دون طائل، وقليل جداً أولئك الذين يستغلّون أعمارهم الفانية لأعمارهم الدائمة.
وإذا كان إنسان العصر الحديث دقيقاً في حساب الزمن، دقيقاً في حساب الأرباح.. فعليه أن يكون دقيقاً في حساب عمره الروحي وبعده المستقبلي.. ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ( {الأحقاف:20} إلا وعند هذا التأزم، وذروة القلق الذي يعيشه المتلقي، تَفتح أمامه (إلّا) فسحة من أمل…

 

يتبع

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة