تأملات قرآنية ـ تأملات في سورة الطارق ـ القسم الثالث
صالح السعود
بسم الله الرحمن الرحيم
….وكأن الآيات تقول لنا : إذا علمتم أن للنجوم حافظا، كما أن لكم حافظا، وتقرر الإيمان في قلوبكم ثم أردتم الاطمئنان إلى هذا الإيمان فلنخرج في رحلة استكشافية إلى تاريخكم إن عجزتم عن الوصول إلى إدراك النجوم الوضاءة خاركم وخالقها !
ولكن لو عاودنا النظر مرة أخرى إلى الآية لوجدنا سؤالها واضح الصياغة، متعين الإجابة، إلا أن رسم مشهد تلك الإجابة سيسهم في خلق عالم من الانفعالات المشوقة التي تغري القارئ بالتدرج مع النص للوصول إلى الغاية التي ينشدها المرسل .
( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، يَخرُجُ مِن بينِ الصُّلْبِ والتَّرائبِ)
إن تاريخ خلق كل نفس على هذه البسيطة يقول إنه : ( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) وإذا كانت الآيات الأول قد طوت صفحاً عن عالم السماء – ولو إلى حين – ففي عالم الأرض كائن بسيط، وهو في نفس الوقت معقد في شتى تكويناته، لدرجة أن الماء الذي خلق منه يتحول من (مدفوق) إلى (دافق) يمتلك مقومات الإدراك والحركة، ويتخطى بنا النص هذا الأمر ليحدد لنا المعمل الذي يصنع منه ذلك الإنسان المدرك ( يَخرُجُ مِن بينِ الصُّلْبِ والتَّرائبِ) وهذا ما يزيد الأمر إغراقاً وإبهاماً ويجعل المتلقي يستعرض عضلاته الفكرية والعلمية لفك هذا الإغراق، فهل يدرك الإنسان سر هذا الخلق، وإن لم يقل له النص (وما أدراك ؟)
وهنا يكتفي السياق بهذه اللمحة الحركية الخاطفة الغامضة، لينقلنا مباشرة إلى عالم آخر، ربما يكون أكثر صخبا..
( إنَّهُ على رجعِهِ لقادِر)..
وهنا وقفتان: أولاهما؛ أنه في (إنه) لم يصرح لنا بذلك الخالق والراجع، تاركاً لنا مجال البحث إن كان هناك أحد غيره سبحانه !
وثانيتهما : أنه يعرض عن تفصيل أهم مرحلة من مراحل الوجود الإنساني ؛ وهي مرحلة (الحياة الدنيا) فينتقل بنا فجأة من عالم النطف إلى عالم البعث، فأين هي الغاية من حياة الإنسان ؟!
تلوح لنا عند هذا التساؤل حقيقتان مهمتان تكتنزان في ثنايا السياق ؛ الحقيقة الأولى : أن الحياة التي تعيشونها وتسمونها حياة، ماهي في حقيقتها إلا لحظات لاتضارع لحظة واحدة من لحظات الرجعة التي تؤولون إليها، أما الحقيقة الثانية : فإن ما ينبغي الوقوف عنده في حركة الحياة الدنيا هي الرجعة، فكيف يستطيع الإنسان أن يكون مستعداً لموقف الرجعة التي أُحيطت بجوانب التوكيد اللفظي والمعنوي (إنه على رجعه لقادر) .
( يومَ تُبْلَى السرائر)
وإن توقف المتلقي مستنكراً أو متردداً في أمر (الرجعة) للتهرب من مسؤولية النظرة الصائبة إلى الوجود الإنساني وما حوله، فإن السياق يباغته بهذه النقلة الخاطفة حتى ليخيل إليه أنه منتقل معه إلى عالمه الآخر، ثم يهدئ من روعه قليلاً، فليس اليوم يوم جزاء وكشف الأوراق وتصفية الحساب، وإنما سيكون ذلك يوم غد ( يومَ تُبْلَى السرائر)
( فما له من قوةِ ولا ناصِر)
ويلتف بنا السياق عند هذه النقطة في عملية عكسية منتهاها عند ذلك (الحافظ) الذي أنكره المحفوظ وأضاع حدوده، هناك في ذلك العالم الغيبي يبرز لنا ذلك (الحافظ) لكن بصورة مخالفة تماماً عما كان عليه من قبل، ويعود مشهد (الماء الدافق) يتقابل مع مشهد ( فما له من قوةِ ولا ناصِر) والفرق أنه كان هناك محفوظاً، وهنا يبحث عمن يعيد له حفظه المضيع بقوته الفعلية أو الخارجية .
( والسماءِ ذاتِ الرَّجعِ)
ويظل هذا الرجع يرن في ذهن المتلقي…
يتبع