تأملات قرآنية ـ تأملات في سورة الطارق ـ القسم الثاني

img

صالح السعود

وبعد أن أدرك الإنسان أنه يسبح في عالم فسيح لا يدرك منه إلا كما يدرك من أبعاد نفسه المكتنهة بالغموض.. (وما أدراك ما..)

يردفها سبحانه بالتأكيدات المتولية على الحفظ والرعاية ( إِنْ كلُّ نفْسٍ لَمَّا عليها حافِظٌ ( تشفع بثنائية مودعة في كلمة (حافظ) حيث تستشعر النفس أنها محاطة بـ[ 1 ] ” حفظ ” العناية والرعاية الربانية حتى تصل ” النفس ” إلى كمالاتها التكوينية والتشريعية من جهة، و[ 2 ] ” حفظ ” الرقابة والتدقيق على كل تحركاتها من جهة أخرى، وكأن صاحب هذه النفس الفريدة فريداً في عالمه، وكأن الله سبحانه لم يرعَ أحداً غيره، ولم يرقب أحداً سواه .

( فَلْيَنْظُرِ الإنسانُ.. )
ومن جمال الأسلوب القرآني وبطريقة فنية غير مباشرة يفاجئنا السياق بما لم يكن في الحسبان، فبينما كان من متوقع المتلقي بعد ( فَلْيَنْظُرِ الإنسانُ.. ) أن يخليه إلى عالم السماء متأملاً فيه (فلينظر الإنسان إلى السماء) إلا أن النص ينحرف به إلى عالم آخر كان هو الشعلة الأولى لوجوده لا لتميزه !
( فَلْيَنظُرِ الإنسانُ مِما خُلِقَ )
والذي يلفت نظر القارئ في الآية الشريفة ( فَلْيَنظُرِ الإنسانُ مِما خُلِقَ ( أن خاتمتها تقول (خُلق) دون أن تذكر لنا الخالق أو تذكرنا به، ليستمر – على أقل تقدير – الوقع الموسيقي على هذا الوزن (طارق – ثاقب – حافظ – خالق) ولكن في اختيار هذه الكلمة – إضافة إلى انعتاقها من إطارها الصوتي النغمي وكسرها لرتابة الأسلوب – بعثاً للمتلقي نحو البحث عن الخالق ( أم خُلُقُوا مِنْ غيرِ شيءٍ ؟ أمْ همُ الخالِقونَ ؟)
وكأن النص يلمح إلى أن وظيفة الإنسان النظر إلى المخلوق للوصول إلى الخالق (لاتفكروا في ذات الله فتهلكوا ولكن فكروا في مخلوقاته)، وهذا ما يركز عليه بـ (لام الأمر للتوكيد، والفعل المضارع للدوام والاستمرار) وإذا عجز الإنسان – ذو المتواليات الخصوصية – عن الوصول إلى أبعاد السماوات، فهذه نفسه التي ليس له أقرب منها، فإن أدركها ترقى مع سلم المعارف الإنسانية بدءاً بالنظر ومروراً بالنظرية والقانون، وانتهاءً بالإيمان الثابت في القلب، وإما الإيمان الساذج الذي لايحرك صاحبه نحو النظر فهو كلا إيمان،، وكأن الآيات تقول لنا : إن تقرر الإيمان في قلوبكم ثم أردتم الاطمئنان إلى هذا الإيمان فلنخرج في رحلة استكشافية إلى تاريخكم إن عجزتم عن الوصول إلى إدراك النجوم الوضاءة خاركم وخالقها !

ولكن لو عاودنا النظر مرة أخرى إلى الآية لوجدنا سؤالها واضح الصياغة، متعين الإجابة، إلا أن رسم مشهد تلك الإجابة سيسهم في خلق عالم من الانفعالات المشوقة التي تغري القارئ بالتدرج مع النص للوصول إلى الغاية التي ينشدها المرسل .
( خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، يَخرُجُ مِن بينِ الصُّلْبِ والتَّرائبِ)
يتبع

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة