تأملات قرآنية ـ تأملات في سورة الطارق ـ القسم الأول
صالح السعود
بسم الله الرحمن الرحيم
( والسماءِ والطارِقِ ( وماأدراكَ ما الطارِقُ ( النَّجمُ الثاقِبُ (
منذ المطلع يجتذبنا النص إلى عالم أفقي أسميناه بـ (السماء)، وعلى الرغم من الدهشة التي تمتلكنا حين نعلم أن لا سماء فوق رؤوسنا، وأن هذا اللون الأزرق المترامي الأطراف ما هو إلا الفراغ الذي نسبح فيه مع مخلوقات الله التي لاتحصى، وهذا العالم الذي يبدو من ظاهره الصمت والهدوء، يصطدم به عالم صاخب يطلق عليه القرآن الكريم (الطارق).
وحين ننساق مع النص لاستكشاف هذا الإبهام يباغتنا بالتجهيل (وما أدراك ما الطارق) مما يؤدي بالمتلقي إلى إبطاء عملية التفكير وإطالة زمن التأمل ريثما يسترجع مشاعره وأفكاره ، فهو بعد أن يلفتنا إلى عالم الفضاء الواسع اللامحدود، يعود بنا إلى باطننا العميق اللامحدود، مؤذناً بأنهما عالمان لكل منهما شأن ونظام ونسق خاص به لا يمكننا إدراكه (وما أدراك..)
عند هذا التصعيد – المبكر – يشعر المتلقي في أعماق شعوره المحتدم أنه بحاجة إلى استجلاء هذا الغموض وكشف هذا المبهم الذي أثاره فيه النص، إلا أن السياق ينعطف كرة أخرى، يقودنا إثر هذه السلسلة من الانفعالات إلى الإجابة الحاسمة، إنه (النجمُ الثاقِب) !
هنا عند هذه النقطة يجد المتلقي نفسه بحاجة إلى إعادة قراءة النص من جديد، موقناً بأن النص السابق لايصف الطبيعة (السماء ونجومها) وصفاً فوتوغرافياً طبيعياً جافاً، ولكنه بمزج بين المحسوس واللامحسوس والمحدود واللامحدود، ويطمس الحدود الفاصلة بين عالم الإنسان الداخلي والخارجي، ليتحول من وصف الطبيعة إلى وصف الشعور الذي يختمر في قلب المتلقي تجاه هذه الطبيعة الصامتة في إطارها الخارجي المتحركة في طبيعتها وطبيعة الناظر إليها .
بعد هذا المقطع السريع قد يستخلص القارئ نتاج العبارات لغوياً (السماء – الطارق – الإدراك – النجم) ويلخصها ذهنياً (السماء والإدراك) أو (تأملوا السماء)…، ولكن أين من ذلك هزة الضمير، واختلاجة الروح، وترجمة الشعور، ولذة الاستغراق..
( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عليها حافظٌ (
وحين يسرحنا السياق عبر هذه العوالم، يوصلنا بسياق آخر يشكل بعداً ثانياً من أبعاد وجودنا الإنساني، فالتناغم بين أجزاء السماء والعلاقة التي تشدنا إليها تبرز سلسلة من العلائق من بينها أو من أهمها ( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عليها حافظٌ ( ولعلنا نستطيع أن نختزل هذه العبارة أيضاً بمدلول : (النفوس محفوظة) إلا أن للإسهاب وقعه ومداليله .
وعند الدخول في جزئيات هذه الآية المباركة نجد النفس مشدودة نحو استبصار العلاقة الكامنة بين الفقرتين ؛ وعلى هذا فيلزمنا أن نعاود مطالعة المقطع الأول من الآيات مقرونة بآية يقول فيها سبحانَه ( إنّا زيَّنَّا السماءَ الدنيا بزينةٍ الكواكِبِ ( وحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِد ( (الصافات 6 – 7) ومن هنا تظهر الوظيفية الثنائية للنجم فلم يعد مجرد جرم سماوي مضيء أو شيئاً مما قد بدا لنا من قراءتنا الأولى للآيات الشريفات وحسب، ولكنه يجمع إلى ذلك صفة الحافظية، ومن هذه الحافظية ينكشف لدى النفس سر العلاقة العميقة بينه وبين النجم الذي يرقبه، فإذا هما محفوظان وكأنهما ممزوجان في روح واحدة تمتد في جسد الإنسان كما تمتد في جسد السماوات السبع، ولكلٍّ حفظ خاص به !
وعلى الرغم من أن الآية لم تخصص أية ” نفس ” هي المرادة، ومع ذلك ينصرف المتلقي لاشعورياً إلى نفسه المحفوظة بين يدي الرحمن، وكأنه هو المخاطب دون غيره ولسان حاله يقول : ” فكم من موهبة هنيئة قد أعطاني، وبلية مخوفة قد كفاني ”
ولو تتبعنا لغة الآية الشريفة لوجدناها مثقلة بعبارات التوكيد والتعميق ( إِنْ كلُّ نفْسٍ لَمَّا عليها حافِظٌ ( وتشفع هذه التوكيدات بثنائية مودعة في كلمة (حافظ)…
يتبع