العفة ـ القسم الأول

img

قال عز من قائل وهو أصدق القائلين .. بسم الله الرحمن الرحيم : (وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) على ضوء الآية الكريمة سيكون حديثنا عن مفردة مهمة في المنظومة الأخلاقية التي يسمو بها الإنسان إلى معارج الكمال الذي أراده الله تعالى له ألا وهي : العفة وسيكون الحديث حول محورين ..

  • تعريف العفة وأنواعها ومنشؤها
  • وكيف نكتسب العفة وهل اكتسابها ضرورة .؟؟

بداية لا بأس بالتبرك بالوقوف على بعض أسرار هذه الآية العظيمة ..

الآية المباركة تتحدث عن قضيّة ورود موسى(عليه السلام) إلى مدينة مدين.

هذا الشاب الطاهر الذي لا يغش أحداً أمضى عدّة أيّام في الطريق، الطريق التي لم يتعود المسير فيها من قبل أبداً، ولم يكن له بها معرفة، في كتاب تفسير الميزان للطباطبائي: فخرج منها خائفا يترقب من مصر بغير ظهر ولا دابة ولا خادم تخفضه أرض وترفعه أخرى حتى انتهى إلى أرض مدين. وكما يقول بعضهم: اضطر موسى إلى أن يمشي في هذا الطريق حافياً، وقيل: إنّه قطع الطريق في ثمانية أيّام، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب، وورمت قدماه من كثرة المشي.

وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعاً لجوعه، وليس له أمام مشاكل الطريق وأتعابه إلاّ قلبه المطمئن بلطف الله الذي خلّصه من مخالب الفراعنة.

وبدأت معالم «مدين» تلوح له من بعيد شيئاً فشيئاً، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لاقترابه من المدينة، ولما اقترب استطاع بسرعة أن يكوّن لمحة عامّة عن سكّان مدين بأنّهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم.

يقول القرآن في هذا الصدد: (فلما ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من الناس يسقون ووجد من دونهما امرأتين تذودان ) ـ «تذودان» مشتقة من «ذود» على زنة «زرد» ومعناها المنع، فهما إذاً كانتا تذودان أغنامهما لئلا تختلط بالأغنام الأُخرى.

.

فحركه هذا المشهد… حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام، ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم.. بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم، وعليهم آثار العفّة والشرف، مشهد أثار حفيظة نبي الله ..

لم يرق لموسى(عليه السلام) أن يرى هذا الظلم، وعدم العدالة وعدم رعاية المظلومين والمستضعفين ، وهو يريد أن يدخل مدينة مدين، فلم يتحمل ذلك كله، فهو المدافع عن المحرومين ومن أجلهم ضرب قصر فرعون ونعمته عرض الحائط وخرج من وطنه، فهو لا يستطيع أن يترك طريقته وسيرته وأن يسكت أمام الجائرين الذين لا ينصفون المظلوم!.. جاء إليهما موسى(عليه السلام)ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و (قال ما خطبكما ) ما خطبكما: أي ما شأنكما وما شغلكما هنا؟!

وَلِمَ لا تتقدمان وتسقيان الأغنام؟!

 

فقالت البنتان: إنّهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة اغنامهم:

(قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء )أصدر الشيء : صرفه عنه .. يعني يسقي الرعاء دوابهم ويصرفونها عن الماء.امرأتان تتحدثان بأدب شديد ولأجل أن لا تفسحا المجال للأجنبي الذي لا تعرفان هويّته أن يطيل الحديثَ معهما

ومن أجل أن لا يسأل موسى: أليس لكما أب؟ ولماذا رضي بإرسال بناته للسقي مكانه، أضافتا مكملتين كلامهما (وأبونا شيخ كبير ) فلا هو يستطيع أن يسقي الأغنام، وليس عندنا أخ يعينه على الأمر فلا حيلة لنا إلاّ أن نؤدي نحن هذا الدور.

فتأثر موسى(عليه السلام) من سماعه حديثهما بشدة. فأي أناس هؤلاء لا ينصفون المظلوم، ولا هم لهم غير أنفسهم.

ويقال: إنّ موسى(عليه السلام) حين اقترب من البئر لام الرعاء، قال: أي أناس أنتم  لا همّ لكم إلاّ أنفسكم! وهاتان البنتان جالستان؟! ففسحوا له المجال وقالوا له: هلمّ واملأ الدلو، وكانوا يعلمون أن هذه الدلو حين تمتليء لا يستخرجها إلاّ عشرة أنفار من البئر.ولذلك وصفته الفتاة لأبيها بالقوي

ولكن موسى(عليه السلام) بالرغم من تعب السير في الطريق والجوع ملأ الدلو وسحبها بنفسه وسقى أغنام المرأتان جميعها.. (ثمّ تولّى إلى الظل وقال ربّ إنّي لما أنزلت إلىّ من خير فقير ).

أجل.. إنّه متعب وجائع،فروى أنه قال ذلك وهو محتاج إلى كف من تمر و.. جائع ولا أحد يعرفه في هذه المدينة، فهو غريب، وفي الوقت ذاته كان مؤدباً وإذا دعا الله فلا يقول: ربّ إنّي أريد كذا وكذا، بل يقول: (ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير ) أي إنّه يكشف عن حاجته فحسب، ويترك الباقي إلى لطف الله سبحانه. فلما رجعتا إلى أبيهما قال: ما أعجلكما في هذه الساعة ؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا

لكن هلمّ إلى العمل الصالح، فكم له من أثر محمود! وكم له من بركات

عجيبة! خطوة نحو الله ملءُ دلو من أجل إنصاف المظلومين، فتح لموسى فصلا جديداً، وهيأ له من عالم عجيب من البركات المادية والمعنوية.. ووجد ضالته التي ينبغي أن يبحث عنها سنين طوالا.

وبداية هذا الفصل عندما جاءته احدى البنتين تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة ويظهر منها أنّها تستحي من الكلام مع شاب غريب: رجوعهما إليه بهذه السرعة على غير ما اعتادتا عليه، فقصتا عليه الخبر، فأرسل خلفه (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) فلم تزد على أن (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ).

فلمع في قلبه إشراقٌ من الأمل، وكأنّه أحس بأنّ واقعة مهمّة تنتظره وسيواجه رجلا كبيراً!.. رجلا عارفاً بالحق وغير مستعد أن يترك أي عمل حتى لو كان ملء الدلو أن يجزيه عليه، هذا الرجل ينبغي أن يكون انساناً نموذجياً ورجلا سماوياً وإلهيّاً.. ربّاه.. ما أروعها من فرصة.

أجل، لم يكن ذلك الشخص الكبير سوى «شعيب» النّبي الذي كان يدعو الناس لسنين طوال نحو الله، كان مثلا لمن يعرف الحق ويطلب الحق، واليوم إذ تعود بنتاه بسرعة يبحث عن السبب، وحين يعرف الأمر يقرر أن يؤدي ما عليه من الحق لهذا الشاب كائناً من كان. فروى أن موسى عليه السلام قال لها: وجهينى إلى الطريق وامشي خلفي فانا بنى يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء، فعرفت الفتاة  أنه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته. ووصفته بالأمين

تحرك موسى(عليه السلام) ووصل منزل شعيب، وطبقاً لبعض الروايات، فإنّ البنت كانت تسير أمام موسى لتدله على الطريق، إلاّ أن الهواء كان يحرّك ثيابها وربّما انكشف ثوبها عنها، ولكن موسى لما عنده من عفة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير أمامها، فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي إلى دار أبيها شعيب:(1)

دخل موسى(عليه السلام) منزل شعيب(عليه السلام)، المنزل الذي يسطع منه نور النبوّة.. وتشع

فيه الروحانية من كل مكان.. وإذا شيخ وقور يجلس ناحيةً من المنزل يرحب بقدوم موسى(عليه السلام)، ويسأله:

من أين جئت؟! وما عملك؟! وما تصنع في هذه المدينة. وما مرادك وهدفك هنا؟!

ولِمَ أراك وحيداً؟!

وأسئلة من هذا القبيل..

يقول القرآن في هذا الصدد: (فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) فأرضنا بعيدة عن سيطرتهم وسطوتهم ولا تصل أيديهم إلينا، فلا تقلق ولا تشعر نفسك الوحشة، فأنت في مكان آمن ولا تفكر بالغربة، فكل شيء بلطف الله سيتيسر لك!..

ومن هذه الآيات نصل إلى نتيجة أن العملٌ الصالح يفتح أبواب الخير: وذلك من خلال ما حدث لنبي الله موسى

  • أستاذ ربّاني فالتفت موسى إلى أنّه وجد استاذاً عظيماً.. تنبع من جوانبه عيون العلم والمعرفة والتقوى، وتغمر وجوده الروحانيّة.. ويمكن أن يروي ظمأه منه.

كما أحسّ شعيب أنّه عثر على تلميذ جدير ولائق، وفيه استعداد لأن يتلقى علومه وينقل إليه تجارب العمر!

أجل.. كما أن موسى شعر باللذة حين وجد أستاذاً عظيماً.. كذلك أحس شعيب بالفرح والسرور حين عثر على تلميذ مثل موسى.

2- زوجة : حيث يروى أنه تزوج تلك التي جاءته على استحياء وقالت إن أبي يدعوك ليجزيك وياله من عمل صالح : ألا وهو العفة

وهذه الخيرات من ثمرات عمل صالح ألا وهو العفّة

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة