سورة الفجر.. تراتيل عاشوراء الحسين عليه السلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رفع طرف الخباء، وأخذ يتأمل الخيوط الفضية التي بددت ظلمة الليل البهيم..
تمتم بشفتيه المتشققتين من الظمأ، وهو يقول: (وَالْفَجْرِ)
◼
استرسل يتلو آيات الكتاب.. (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) لم ينسَ أنها الليلة العاشرة من محرم الحرام، إنها الليلة العظيمة التي وعدها إياه جده المصطفى (ص)، وسوف يمضي على مبادئ جده أو يهلك دونها.
◼
يمم وجهه الشريف نحو صهيل الخيول، التي يشفع بعضها بعضا، آلافاً بعد آلاف.. وهو وتر وحيد، محاصر في صحراء كربلاء القاحلة من الماء والكلأ.. وأخذ يكرر (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ).
◼
“والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد..”
إلهي إن كنتُ وترا مفردا، ولكن ذلك لا يثنيني وإن تسرّى الليل، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر) ليتكشّف عن نهار مظلم كالح.
◼
(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)
يال القوم الذين تحجرت عقولهم، أين دعوة خاتم النبيين محمد (ص)، وأنى لهم أن يعودوا لجاهلية الظلام، والعبودية للمال والسلطة..
◼
ارتفع النهار وارتفعت معه أصوات الرجال وصهيل الخيول وقعقعة السلاح، توقف هنيئة يقلب طرفه في صفحات التاريخ، يستذكر جحافل الاستكبار والطغيان، ثم واصل قراءته.. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) لقد كانوا أقوى وأشد بأساً من هذه الطغمة، فما أغنت عنهم عمدهم وقواهم.
وبماذا انتفع قوم ثمود (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ)
وبماذا خرج قوم فرعون (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ)
أخشى على هؤلاء القوم أن يصب الله عليهم عذابه، فما يلبثون إلا كريثما يُركب الفرس، ثم يقعون في مصيدة أعمالهم المرصودة لهم.. (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).
◼
رفع كفه إلى السماء، وهو يقول: الحمد لله الذي أكرمنا بمعرفته، وأنعم علينا بتصديقه، “اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ؛ وَأَنْتَ رَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ؛ وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِـي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ. كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ؛ أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي إلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ؛ فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي، وَكَشَفْتَهُ، وَكَفَيْتَهُ. فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَي كُلِّ رَغْبَةٍ.”
(فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ -15- وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ -16)
إنه الابتلاء الصعب الذي تضيع فيه الموازين، فلا يميز بين الكرامة والإهانة، بين الحق والباطل بين النور والعمى..
◼
استرسل في تلاوة السورة الكريمة.. (كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ -17) اغرورقت عيناه بالدموع حين استحضر يتمه برسول الرحمة محمد (ص)، والانقلاب الكبير.. كما فطّر قلبه ما يؤول له أطفاله اليتامى ونساؤه الثكالى، حين يسترحمون القوم فلا يُرحمون (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ -18)
◼
انكسر قلبه المجروح عندما تذكر تراث النبوة المغتصب (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا -19)، الذي تآلب عليه شذاذ الأُمّة ومردة الكتاب، ومحبي المال والجاه (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا -20)
◼
أهاج سمعه رجيف الأعداء وهم يزحفون نحو المخيمات، فاستذكر مشهد القيامة، حينما تُدك الأرض عن بكرة أبيها (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا -21)
◼
وهناك يكون ربنا هو القيوم، ويكون الجيش فلول الملائكة التي تصطف استعدادا لتنفيذ الأمر العظيم (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا -22)
وهناك تكون حقيقة (الإهانة والإكرام) عندما يجاء بـ(جهنم) وأهوالها، عوضا عن مجيء هذا الجيش الغاشم عليَّ وعلى أبنائي ونسائي، (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى -23)
◼
وعندئذ يتذكر كل واحد منا ما عمل (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي -24)
وهنا يكون التحدي.. وهناك تعلمون كيف تنتهكون حرمتي وتقتلون أصحابي وتوثقون نسائي وأطفالي، وتسعون ألا تبقوا من أهل هذا البيت المطهر صغيرا ولا كبيرا (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ -25 وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ -26)
◼
وضع يده الشريفة على قلبه، وهو ينظر إلى السماء؛ “اللهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك..” أحس وكأن أحداً يخاطب نفسه الشريفة.. (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ -27- ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً -28- فَادْخُلِي فِي عِبَادِي -29- وَادْخُلِي جَنَّتِي -30) عندها تقلد الحسين عزيمة جده، ودخل جنة ربه..
وبقي الحسين عليه السلام، وهلك أعداؤه كما هلك عاد.. وفرعون..
وتركنا عليه في الآخرين سلام ال يس..
◼◼◼◼
اللهم ارزقني شفاعة الحسين يوم الورود وثبت لي قدم صدق مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام
نسألكم الدعاء