حول الإنسان/ البطن (49)
ويضخّه القلب من البطين الأيسر إلى سائر الجسد، ويأخذ منه كلّ شيء من الجسد ما يناسبه ويكفيه، ويفرز منه ما يشاء ربّه ويرضيه، فتفرز منه النحلة عسلها، قال تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ﴾([1])، وتفرز منه الأنعام والاُمّهات لبنها قال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾([2])، ويفرز منه الفحل نطفته، إلى غير ذلك من الإفرازات العجيبة.
ويحتفظ الطحال بكمية من الدم، ثم يوجّهه تدريجياً إلى المعدة حين امتلائها؛ لتستعين به على هضم ما فيها من الطعام؛ لئلّا يسبّب لصاحبه التخمة التي إنْ بقيت أعدمت، وإنْ تحلّلت أسقمت. ولذا أمرنا الله سبحانه بالاتّزان والاعتدال في الأكل والشرب، فقال تعالى: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾([3])، وجاء في الحديث الشريف: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرّاً من بطنه؛ فإذا كان ولابدّ فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للهواء»([4]).
وعنه| أنه قال: «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء»([5]).
ولا يتوقّف ضرر كثرة الأكل والشراب على الأجسام والأبدان فقط، بل يصل ضررهما إلى العقول والأفهام؛ فقد روي عن أمير المؤمنين× أنه قال: «لا تميتوا القلوب بكثرةِ الطعام والشراب؛ فإن القلوب كالزرع إذا كثر عليه الماء مات»([6]).
وقال×: «البطنة تذهب الفطنة»([7]).
وإن من حكم الصوم الذي فرضه الله على المسلمين لمدّة شهر كامل من كلّ سنة أن يحفظ لهم صحّتهم، فقد روي عن النبي| أنه قال: «صوموا تصحّوا»([8]).
وما ذاك إلّا لأن الصوم علاج وقائي للأرواح والأبدان عمّا تعمله فضلات الطعام والشراب فيهما، لاسيما لمن لا يوازن نفسه عند حضورهما، ويدخل على جهازه الهضمي أكثر ممّا يطيق منهما، لا سيما إذا جلس مع من يأكل الكثير وهو لا يقدر إلّا على القليل، فيظن أنه كصاحبه، وينسى أن الناس يختلفون في قوّة هذا الجهاز وضعفه، وقدرته وعجزه؛ فمنهم من يكفيه القليل، ومنهم من لا يكفيه الكثير، حتى قيل: إنه يوجد من يأكل الشاة. ومنهم من يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، كما قال مولانا أمير المؤمنين× عن معاوية([9])، قال بعضهم:
لي صاحب مثّلته كالهاوية | كأن في أمعائه معاوية([10]) |
وإذا كان أكل ما يزيد على حاجة الإنسان تضر بصحة بدنه فان أكله من الحرام يضر بدينه وعقيدته وقد قال الإمام زين العابدين× في رسالته المعروفة برسالة الحقوق وأما حق بطنك فأن لا تجعله وعاء لقليل من الحرام ولا لكثير وأن تقتصد له في الحلال.
وفي كتاب سفينة البحار أنه ورد في الحديث القدسي يا أحمد أن العبادة عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال فاذا طيبت مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي (أي ورحمتي)
وفي الحديث أيضاً عنه| أن لله ملكا ينادي كل ليلة من أكل حراما لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا (والصرف يعني النافلة والعدل الفريضة)
وقال الإمام الحسن بن علي’ في وصيته لجنادة واعلم أن الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك فان كان حلالا كنت قد زهدت فيها وأن كان حراماً لم يكن فيه وزر فقد أخذت منها كما أخذت من الميتة وان كان العتاب فالعتاب يسير.
وإن من عجيب قدرة الله سبحانه وتعالى ـ لو كان في قدرته عجب ـ ما حصل لنبي الله يونس بن متّي× من أنه بقي في بطن الحوت أيّاماً عديدة ثم خرج منها حيّاً سالماً لم يتأثّر منه إلّا جلده. وأعجب من ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾([11])؛ لأن معنى ذلك أنه لو لم يكن النبي يونس× ﴿مِنْ الْمُسَبِّحِينَ﴾ لأبقى الله الحوت حيّاً، وأبقى النبي يونس× حيّاً في بطنها إلى يوم القيامة. هذا معنى الآية على ما قاله بعض المفسّرين([12])؛ لأنه إذا مات الحوت ومات يونس في بطنه وتفسّخت أوصالهما، وتبدّدت أعضاؤهما لم يبقيا ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ كما تقول الآية الكريمة.
يتبع…
الهوامش:
([5]) عوالي اللآلي 2: 30/ 72، طب الأيمّة (ابن سابور الزيات): 6، بحار الأنوار 58: 307/ 17.
([6]) بحار الأنوار 67: 71 / 20.
([7]) بحار الأنوار 63: 330 ـ 331/ 4.
([8]) عوالي اللآلي 1: 268/ 70.
([9]) قال× لأصحابه: «أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد؛ فاقتلوه ولن تقتلوه. ألا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة مني؛ فأما السبّ فسبّوني؛ فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأمّا البراءة فلا تتبرؤوا منّي؛ فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة». نهج البلاغة / الكلام: 57.
([10]) البيت لأبي حامد الضرير القزويني. قرى الضيف 3: 465، مجمع الأمثال 1: 87.
([12]) تفسير شبّر: 426، تفسير النسفي 4: 28، تفسير البيضاوي 5: 27.