حول الإنسان/ الرِّجلان (47)
ولما كانت كلمة الرجل تعني كلّ هذه الأوصال التي ذكرناها، قالت الآية الكريمة: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾، يعني إلى أصل الساق على الأحوط عند كثير من العلماء. ولولا هذا التحديد لوجب المسح إلى الوركين. فهذا التحديد للممسوح وللمسح؛ إذ لو لم تقل الآية الكريمة: ﴿إِلَى الْكَعْبَينِ﴾ للزم مسح الرجلين كلّهما من الأصابع إلى الوركين، أو من الوركين إلى الأصابع.
والكعبان المذكوران هما إما المفصلان الناشزان في ظهري القدمين تحت مشرك النعال، وإما المفصلان اللذان هما بين الساقين والقدمين. وبناءً على عطف القدمين على الرأس في الآية الكريمة فإن الأئمة الطاهرين من أهل البيت^، ـ وتبعهم على ذلك شيعتهم ـ يوجبون المسح على القدمين، ولا يجيزون غسلهما ولا غسل أو مسح ما عليهما من الجواريب والأحذية، ويعتبرون النّصب للأرجل في الآية بناءً على المحل؛ لأن أكثر ما هو مجرور بالحرف لفظاً منصوب على المفعولية محلّا ً، فـ ﴿بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ من قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾ إذا نزعنا عنهما الخافض ـ وهو الباء ـ بقيا مفعولين.
وعلى الرغم ممّا عند الشيعة من حجّة في المسح على القدمين، فقد لقوا في سبيل ذلك ما لقوا، كابن يقطين& فقد سعوا به إلى الرشيد بحجّة أنه يجب قتله، أو إبعاده عن الوظيفة على الأقلّ؛ لأنه رافضي. ولمّا أخبرهم الرشيد أنه يشكّ في رفضه، قالوا له: فاختبره في الوضوء، فإنهم يخالفون فيه عامّة المسلمين. ولولا أن الإمام موسى بن جعفر× كان قد أمره قبل ذلك أن يتوضّأ بوضوء عامّة المسلمين لوقع في التهلكة([1]).
وبما أن القدم هو الطرف الأسفل من الرجل، وعليه يطاُ الإنسان، فقد جاء في دعاء الوضوء المروي عن الإمام علي× أنه قال عند مسحه قدميه: «اللهم ثبّت قدميّ على الصراط المستقيم، واجعل سعيي فيما يرضيك عني يا كريم»([2]).
وقد ألهم الله الإنسان، ومكّنه من أن يصنع ما يقي به قدمه من السربال والنعال وغير ذلك من أنواع الأحذية؛ ليقي بها قدميه ممّا يجرحهما من الشوك، وممّا يحرقهما من الرمضاء وغير ذلك.
قال أمير المؤمنين× في بعض خطبه: «فارحموا أنفسكم؛ فقد جرّبتموها في مصائب الدنيا، فرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه والرمضاء تحرقه، فكيف إذا كان بين طابقين من نار: ضجيع حجر وقرين شيطان؟»([3]).
وقد قيل: إن أول من لبس النعال من الأنبياء إبراهيم الخليل×، وأثر القدمين الموجود في مقامه× شاهد على أنه كان لابساً حينئذٍ لنعلين رقيقين؛ لأنه لا يوجد في ذلك الأثر أثر أصابع القدمين. وقد اقتدى به الأنبياء^ في ذلك، وقد خاطب الله سبحانه وتعالى كليمه موسى بن عمران× فقال: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾([4])، أي اخلع نعليك تأدّباً؛ فإنك بالوادي المقدّس حيث تجلّى لك فيه النور الإلهي الذي رأيته كأنه نار؛ فكان مقدّساً بذلك. وهو وادٍ بالشام قرب جبل الطور.
وكان رسول الله| ينتعل، وقد اشتهر عنه حديث «خاصف النعل» الذي رواه كثير من أهل السير([5]) بعدّة وجوه، ففي (الإرشاد) للمفيد& بإسناده عن الإمام الباقر× أنه قال: «انقطع شسع نعل رسول الله|، فدفعها إلى علي× ليصلحها، ثم مشى في نعلٍ واحدةٍ غلوة أو نحوها، وأقبل على أصحابه وقال: إن منكم من يقاتل على التأويل كما قاتل معي على التنزيل. فقال أبو بكر: أنا ذاك يا رسول الله؟ فقال: عمر أنا ذاك يا رسول الله؟ فقال|: لا. فأمسك القوم، ونظر بعضهم إلى بعض، فقال رسول الله|: ولكنّه خاصف النعل. وأومأ بيده إلى علي بن أبي طالب×»([6]).
وروى سبط ابن الجوزي في كتابه (تذكرة الخواصّ) بسنده عن أنس بن مالك عن رسول الله| أنه قال: «لينتهُن بنو وليعة، أو لأبعثنّ إليهم رجلاً كنفسي، يُمضي فيهم أمري، يقتل المقاتلة ويسبي الذريّة». قال أبو ذر t: فما راعني إلّا برد كفّ عمر من خلفي، فقال: من تراه يعني؟ قال أبو ذر t: فقلت: ما يعنيك، ولكنه يعني خاصف النعل علي بن أبي طالب×.
وبنو وليعة من العرب من كندة.
وروى المذكوران معاً في الكتابين المذكورين أن سهيل بن عمرو أقبل إلى رسول الله| بعد غزوة الحديبية في جماعةٍ من قريش، فقال: يا محمد، خرج إليك اُناس من إخواننا وأبنائنا وأرقّائنا، فارددهم علينا. فغضب رسول الله| حتى تبيّن الغضب في وجهه، ثم قال: «لتنتهُنَّ يا معاشر قريش، أو ليبعثن الله عليكم رجلاً امتحن الله قلبه بالإيمان يضرب رقابكم على الدين». فقال بعض من حضر: ومن هو يا رسول الله؟ فقال: «من امتحن الله قلبه للإيمان وهو خاصف النعل». وإذا هو علي×.
قال المفيد&: وكان الذي أصلحه أمير المؤمنين× من نعل رسول الله| شسعَها؛ فإنه كان قد انقطع([7]).
الهوامش:
([3]) نهج البلاغة / الخطبة: 183.
([5]) وغيرهم، انظر: مسند أحمد 3: 82، المستدرك على الصحيحين 2: 138، 497، المصنف (ابن أبي شيبة) 7: 498، مسند أبي يعلى 2: 341.
([7]) المصدر نفسه.