حول الإنسان/ الرأس (45)
وبما أن الرأس مجمع الحواسّ، ومنبع ما لا يخضع للقياس، فقد جُعل السجود أبلغ التواضع لله تعالى؛ لأن معنى السجود هو وضع الرأس الذي هو أشرف أعضاء الإنسان وأعلاها على الأرض حذاء القدمين. وهذا أبلغ ما يستطيع أن يعمله الإنسان من التواضع؛ ولذلك لا يجوز السجود لغير الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكرنا في المجلس الثاني من الفصل السادس عشر من كتاب (رائق الضمير)([1]) أنه مضافاً إلى ما في الرأس من الحواسّ الداخلية والخارجية، فقد اكتشف العلم الحديث أن فيه تحت الناصية التي يمسح عليها الإنسان في وضوئه منطقة تكمن فيها إرادة الإنسان التي ينطلق منها الخير والشرّ، وأن الآية الكريمة قد أشارت إلى ذلك فقالت: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾([2]).
ولعلّ العلم يصل يوماً ما إلى اكتشاف ما هو أكثر؛ فإن في هذا الدماغ من العجائب ما يذهل العقول، ولا يزال العلماء يجهلون أكثر من ثلثي الوظائف التي يقوم بها الدماغ. وكانوا يعتقدون قبل عشرات السنين أن كشف كلّ ميكانيكية عمل الدماغ أمر ممكن، ولكنّهم اليوم أدركوا جيداً أن وصولهم إلى ذلك أكثر من مستحيلٍ؛ ولذلك فإنهم لا يزالون يطرحون هذا السؤال على أنفسهم تارةً وعلى بعضهم البعض اُخرى: ما هو هذا الدماغ؟ أهو آلة الكترونية، أم هو مختبر كيماوي؟ أم ماذا؟ هذا هو الدماغ العجيب.
إن نسبة هذا الدماغ أقل من اثنتين إلى المئة من الجسم، ولكنّه لكثرة أعماله السلبيّة والإيجابيّة يحتاج إلى عشرين بالمئة من الدم الذي يضخّه القلب، وإلى خمسة وعشرين بالمئة من الأوكسجين الذي يجمعه الدم، وله نظام معقّد من التغذية والحماية. وهو مؤلف من أكثر من مئة مليار خلية عادية، ومن أكثر من عشرة آلاف خلية عصبية، ولديه عدّة مخاريط وجسور وأساطين. ولكل واحدٍ من هذه الأعداد الهائلة والأنواع المختلفة عمله الإيجابي والسلبي، فهو بالنسبة للعلم والعلماء تلك العلبة المقفلة التي لا يستطيع أحد أن يعرف محتواها. وما وصل العلماء إلى معرفة شيءٍ من عملها إلّا وفتح عليهم ذلك الشيء أودية من المجاهيل.
قالوا: ولو أراد الإنسان أن يوجد صورة دماغٍ مجسدةٍ على الأرض من أجل أن تتسهّل عليه معرفة ما فيه من السلبيّات والإيجابيّات فإنهم سيحتاجون إلى تكاليف باهظة؛ لأنه يحتاج إلى أكثر من نصف مليون كيلومتر مكعّب من الأرض لاستيعاب كلّ عشرة آلاف خلية، في حين أنه يحتوي على نحو من مئة مليار وعشرة آلاف خلية، ثم يحتاج إلى أكثر من مليون كيلو واط من الكهرباء لتسييره وتنويره. وعلى هذا فإن صورة الدماغ تستهلك على الأقل ميزانية دول العالم لمدّة سنة كاملة على شرط ألّا تزيد نفقة بناء كلّ خلية عن شلن واحد وإلّا فالأمر يستوجب أكثر من ذلك.
مع العلم أن تلك الصورة لا تزيد على أنْ تكون صورة بدائية ناقصة، فسبحان الخلّاق العليم الذي جعل كلّ هذا فيما لا يزيد عن سعة فنجان إلّا قليلاً. ولكن العلماء مهما جهلوا من فعاليّات الدماغ فإنهم لا يجهلون أنه تتوقّف عليه سلامة الحياة العقلية والجسميّة؛ ولهذا قال الطبيب لأمير المؤمنين×: اعهد عهدك؛ فإن الضربة وصلت الدماغ([3]).
ومن أجل أهميّة الدماغ فقد جعلت عظام الرأس من أصلب عظام الإنسان حتى إنه توجد في بعض المتاحف جماجم مرّت عليها مئات السنين. وقد روي أن أبا جهل الحكم بن هشام لما أراد عبد الله بن مسعود t قطع رأسه يوم بدر طلب منه أن يقطعه من أصل العنق، قال: ولِم؟ قال: ليراه محمد مهيباً في عينيه.
فلما عرف غايته من ذلك قال: فإني سأقطعه من تحت الحنك. وفعل ذلك، وجاء وبالرأس إلى النبي|، فسجد النبي| شكراً لله سبحانه، ثم أمر ابن مسعود أن يردّ الرأس إلى جسده. ولم يسمع عن رسول الله| ولا عن أحد من الخلفاء الراشدين أن أحداً منهم سمح بتشهير رأس أحد من الناس.