حول الإنسان/ الرأس (44)
ثم قال تعالى:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾([1]).
الرؤوس جمع رأس، وهو في عرف الفقهاء على عدّة معانٍ:
1ـ أنه الكرة التي هي منابت الشعر، وهو رأس الصائم.
2ـ أنه الكرة التي هي منابت الشعر ومعها الاُذنان، وهو رأس المحرم.
3ـ أنه الكرة التي هي منابت الشعر ومعها الوجه، وهو راس الجناية في الشجاج، وقد ذكرنا ذلك في المجلس السادس من الفصل السادس عشر من كتاب (رائق الضمير)([2]).
4ـ أنه تلك الكرة ومعها الرقبة، وهو رأس الأغسال للجنابة وغيرها.
5ـ أنه بعض تلك الكرة التي هي منابت الشعر، وهو راس الوضوء المذكور في الآية ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾؛ لأن الباء للتبعيض. وقد جاء في دعاء الوضوء عن مولانا أمير المؤمنين× أنه قال عند المسح على رأسه: «اللهم غشني برحمتك وعفوك وعافيتك»([3]).
وجمجمة الرأس على ما ذكره المظفر& في كتابه (الإمام الصادق×) نقلاً عن ابن سينا& أنه قال: إنها مركبة من سبعة أعظم، أربعة منها كالجدران، وواحد كالقاعدة، والباقيات تتألّف منها العجف، ولعلّها العظام الصغار، وبعضها موصول إلى بعض بدروز يقال لها الشؤن.
وذكر& أن الإمام الصادق× قال في مناظرته للطبيب الهندي: «أخبرني لم كان في الرأس شؤن»؟. قال: لا أعلم. قال×: «فلِم جعل عليه الشعر؟». قال: لا أعلم. قال×: «فلِم خلت الجبهة من الشعر؟». قال: لا أعلم. قال×: «فلِم كان لها تخطيط وأسارير؟». قال: لا أعلم. قال×: «فلِم جُعل الحاجبان فوق العينين؟». قال: لا أعلم. قال×: «فلِم جُعل العينان كاللوزتين؟». قال: لا أعلم.
قال×: «ولِم جُعل الأنف بينهما؟». قال: لا أعلم.
ولما انتهت الأسئلة أجاب الإمام× فقال: «كان في الرأس شؤن؛ لأن المجوّف إذا كان بلا فصل أسرع إليه الصداع، فإذا جُعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد. وجُعل الشعر من فوقه؛ لتصل به الأدهان إلى الدماغ، ويخرج بأطرافه البخار منه». وهذا يدلّ على أن الشعر مجوّف. «وخلت الجبهة من الشعر، لأنها مصبّ النور إلى العينين. وجُعل فيها التخطيط والأسارير؛ ليحتبس فيها العرق الوارد من الرأس إلى العينين قدر ما يميطه الإنسان عن نفسه، كالأنهار في الأرض؛ فإنها تحبس المياه. وجُعل الحاجبان من فوق العينين؛ ليوردا عليها من النور قدر الكفاية، ألا ترى يا هندي أن من غلبه النور جعل يديه على عينيه ليورد على العينين قدر كفايتهما؟ وجُعل الأنف بين العينين؛ ليقسم النور بينهما»([4]).
وفي كتاب مناقب ابن شهر آشوب([5]) وغيره([6]) أن الإمام الصادق× قال لأبي حنيفة: «هل تحسن أن تقيس رأسك؟». قال: لا. قال×: «فما أراك تحسن أن تقيس شيئاً، فهل عرفت لِم جعل الله الملوحة في العينين، والمرارة في الاُذنين، والبرودة في المنخرين، والعذوبة في الفم؟». قال: لا أدري. فقال×: «جعل الله الملوحة في العينين؛ لِأن الله سبحانه وتعالى خلقهما شحمتين، فلولا الملوحة لذابتا. وجعل المرارة في الاُذنين حجاباً للدماغ، فليس من دابّة تدخل في الاُذن إلّا التمست الخروج منه لمرارته، ولولا ذلك لوصلت إلى الدماغ فأفسدته. وجعل البرودة في المنخرين ليصعد النفس وينزل ويجد منه الريح الطيّبة والرديئة. وجعل العذوبة في الفم منّاً من الله على ابن آدم ليجد لذّة الطعام والشراب».
قال بعض العلماء الأعلام: وإنما احتجّ الإمام× على أبي حنيفة بذلك وعرّفه ذلك بسبب أنه غير قادر على القياس؛ لأن القياس لا يساعد على أنْ يكون المرّ والمالح والعذب، والبارد والساخن يخرجون من منبع واحدٍ في زمانٍ واحدٍ، وإنما ساعد القياس على أن المنبع الواحد إنما ينبع منه نوعٌ واحد. وبذلك يتّضح أن كثيراً ممّا هو صادرٌ عن الله سبحانه وتعالى غير خاضعٍ للقياس، وإلّا فكيف ينبع المرّ والمالح، والعذب، والساخن والبارد في وقتٍ واحدٍ من منبع واحد، وهو الرأس؟
يتبع…
الهوامش:
([2]) رائق الضمير 2: 395 ـ 396.
([4]) الفصول المهمّة 3: 237 ـ 238/ 2895.