حول الإنسان/ اليد (43)

img

وقال: لبيد بن ربيعة العامري الشاعر المشهور يخاطب أبناء أخيه عندما سخروا به في كبره، ولم يكن له ولد يكفّهم عنه؛ لأنه لم يرزق إلّا ابنتين فقط:

دفعتكُمُ عني وما دفع راحة   بشيء إذا لم تستعن بالأناملِ([1])

فمثّل الأولاد بالأنامل الكفّ. وتسمى الأصابع الخمسة: الخنصر والبنصر والوسطى والسبّابة والإبهام. ويسمى رأس كلّ إصبع منها بناناً، فالبنان رأس الإصبع المقابلة للاُظفر، قال تعالى مشجّعاً للمؤمنين على قتال الكافرين: ﴿فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ([2])، وقال تعالى: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾. وهذه الآية الكريمة تشير إلى ما في البنان من البصمات التي تخصّص كلّ إنسان عمّن سواه، فهي من أعجب مظاهر القدرة الإلهية، ومن أكبر المعاجز العلمية القرآنية التي اكتشفتها إنگلترا سنة (1884)م، وأسلم من أجلها فيلسوف فرنسي كبير.

وقد جعل الله سبحانه إصبع الابهام منفرداً عن بقية الأصابع؛ ليدور عليها كلّما أراد صاحبه أن يديره عليها. ولو كان معها في صفّ واحد لم تحصل له هذه القدرة، ولم يتحقّق به هذا الغرض، فتتعطّل بعض الأعمال التي تحتاج إلى دورانه حول الأصابع الأربعة، كحساب المفاصل في التسبيح والتكبير وغيرهما من الأعمال. وجعل الأظافر في رؤس الأصابع حماية لأطراف الأصابع أوّلاً، ولتتناول الأشياء الدقيقة التي لا تقدر رؤوس الأصابع على تناولها بغير الاظافر ثانياً. وهي في الوقت نفسه سلاحٌ جارح، ومرآة تعكس حالة الإنسان الصحّيّة.

وقد ذكرنا في المجلس الرابع من الفصل السادس عشر من كتاب (رائق الضمير)([3]) أن في اليد الواحدة نصف الدية، وأن في اليدين معاً دية كاملة. ونذكر هنا أن في الإصبع الواحد عُشر الدية، وأن في العشرة دية كاملة، وأن المرأة تساوي الرجل إلى ثلث الدية، ثم تتخلّف عنه إلى ديتها التي هي نصف دية الرجل. روي عن أبان بن تغلب المتوفّى سنة (141) هجرية أنه قال: سألت مولاي الإمام الصادق× فقلت: ما تقول في رجل قطع إصبع امرأة؟ قال×: «عليه عشرٌ من الإبل». أي كدية إصبع الرجل، قلت: فإن قطع اثنين؟ قال×: «عليه عشرون». قلت: فإن قطع ثلاثة؟ قال×: «عليه ثلاثون». قلت: فإن قطع أربعة؟ قال×: «عليه عشرون».

قلت: يا سبحان الله، يقطع ثلاثة فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعة فيكون عليه عشرون؟ فقال×: «مهلاً يا أبان، إن هذا حكم رسول الله| أن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث عادت إلى النصف. يا أبان، إنك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست محق الدين، وأول من قاس إبليس، فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ([4])»([5]).

وقد جعل الله سبحانه من اليدين شيئاً من التفاضل؛ فاليمين أفضل من الشمال وأخفّ حركةً في الأعمال في الأعمّ الأغلب؛ فبها المصافحة، وبها المبايعة، وبها المناولة، وبها المزاولة، وبها وبها. فالخليل إبراهيم× لمّا كسر الأصنام قال الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ([6]). والكليم موسى× لمّا خاطبه ربّه قال: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى([7]) والحبيب محمد| لمّا خاطبه ربّه قال له: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ([8]).

وبما أنها الأيمن والأفضل فإن المؤمن يعطى كتاب حسناته يوم القيامة بها، في حين أن الفاسق يعطى كتاب سيّئاته بشماله، قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ([9]) إلى أن يقول جلّ ذكره: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ([10]). ولذلك جاء في دعاء الوضوء المروي عن مولانا أمير المؤمنين× أنه قال عند غسل يده اليمنى: «اللهم آتني كتابي بيميني، والخلد في الجنان بيساري، وحاسبني حساباً يسيراً». وقال: عند غسل يده اليسري: «اللهم لا تؤتني كتابي بشمالي، ولا من وراء ظهري، ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي، واكفني شرّ مقطّعات النيران»([11]).

وبما أن اليمين هي المتحرّكة الاُولى لأنها الأخفّ في الحركة، فهي غالباً أوّل ما يقطع من اليدين في ميادين الجهاد، وكان ممن شُرّف بهذه المكرمة جعفر الطيار؛ فقد قطعت يمينه في معركة مؤتة ثم قطعت شماله، فعوّضه الله عنهما بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة. وفي كتاب (معالي السبطين) أن الله تعالى وهب للعبّاس بن علي× ما وهب لعمّه جعفر t.

الهوامش:

([1]) البيان والتبيين 1: 541، ونسبة لعامر ملاعب الأسنّة.

([2]) الانفال: 12.

([3]) رائق الضمير 2: 381.

([4]) ص: 76.

([5]) الكافي 7: 299/ 6، تهذيب الأ؛كام 10: 184/ 719 .

([6]) الصافات: 93.

([7]) طه: 17.

([8]) العنكبوت: 48.

([9])  الحاقة: 19 ـ 21.

([10]) الحاقة: 25 ـ 27.

([11]) الكافي 3: 70 ـ 71/ 6.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة