شرح دعاء الصباح 57
وصدر المتألهين + بعدما نقل هذا الحاصل، قال: «هاهنا سرّ عظيم نشير إليه إشارةً مّا: وهي أنّه يمكن للعارف البصير أن يحكم بأنّ وجود الأشياء الخارجية من مراتب علمه تعالى وإرادته، بمعنى عالميّته ومريديّته، لا بمعنى معلوميّته ومراديّته فقط. وهذا مما يمكن تحصيله للواقف على الأُصول السالفة»([1]) انتهى.
ثمّ من الأحاديث في هذا الباب كما في (الكافي): صحيح صفوان بن يحيى قال: قلتُ لأبي الحسن×: أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق. قال: فقال: «الإرادَةُ مِنَ الْخَلْقِ الضَّميرُ، ومَا يَبْدُو بَعدَ ذلكَ لهم مِنَ الفِعلِ. وَأمّا مِنَ الله تعالى، فإرادَتُهُ إحْداثُه لا غَيرُ ذلكَ؛ لأنّه لا يَروي ولا يَهمُّ ولا يتفكّر. وهذه الصّفاتُ مَنْفيّةٌ عَنهُ، وَهِي صِفاتُ الخلق، فإرِادَةُ الله تَعالى الفعلُ لا غيرُ ذلكَ، يُقولُ لَهُ: «كُنْ»، فَيَكُونُ بِلا لَفْظ وَلا نُطْق بِلِسان ولا همَّة وَلا تَفَكّر وَلا كَيْفَ لذلك، كَما أنّه لا كَيْفَ لَهُ»([2]).
قال السيّد (قدّس سرّه العزيز)([3]): «الضمير: هو تصور الفعل، وما يبدو بعد ذلك اعتقاد النفع فيه؛ تخيليّاً، أوظنيّاً، أو تعقليّاً، ثمّ انبعاث الشوق من القوّة الشوقية، ثمّ تأكّد الشّوق واشتداده إلى حيث يصير إجماعاً. فتلك مبادئ الأفعال الاختيارية فينا، والله سبحانه متقدّس عن ذلك، فنفس علمه السابق اختيارٌ ومشيّة لأفعاله ولا إرادة ولا مشيّة هناك وراء نفس الذات.
ومنها ما روي في (الكافي) عن هشام بن الحكم في حديث الزّنديق الّذي سأل أبا عبد الله، وكان من سؤاله أن قال له: فله رضا وسُخْطٌ؟ فقال أبو عبد الله: «نعم، لكنْ لَيْسَ ذلكَ عَلى ما يُوجدُ مِنَ الْمَخْلوقينَ؛ وَذِلكَ أنّ الرّضا حالٌ يَدخُلُ عَلَيهِ فينقُلُهُ مِنْ حال إلى حال؛ لأنّ المَخْلُوقَ أجْوَفٌ مُعتمِلٌ مُرَكَّبٌ، للأشياء فيه مَدْخَلٌ، وخالِقُنا لا مَدْخَلَ للأِشياء فيهِ؛ لأنِّه واحدٌ واحِديّ الذّات، واحَدِيّ المعنى، فرضاه ثوابه، وسَخَطُهُ عِقابُهُ، مِن غيرِ شيء يَتَداخَلُه فَيُهَيِّجَهُ ويَنقُلَه مِنْ حال إلى حال؛ لأنّ ذلك مِنْ صِفَةِ المَخْلوُقينَ العَاجزينَ المُحْتاجينَ»([4]).
والصدوق (رضي الله عنه) رواه بعينه في كتاب (التوحيد) وفيه: «إنّ الرّضا والغضب دَخالٌ يَدْخُلُ عَلَيهِ، وَخالِقُنا لا مَدْخَلَ للأشْياءِ فيهِ؛ لأنَّهُ واحِدٌ واحِديّ الّذات، واحِديّ المَعْنى»([5]).
أقول: رضاه الذي هو ثوابه، وإرادته التي هي إحداثه وفعله هما المشية الفعليّة التي قد مضى ذكرها، لا الذاتيّة ولا الصّفتيّة اللّتان هما رضاء الذّات بالذّات في أحديّته، وبالصّفات في واحديته، وذلك بقرينة المقابلة، فإنّ الرضاء الذي هو في المخلوق «حال» و«ضمير» مع توابعه تدخل عليه إرادة الفعل والرّضا به تطفّلاً لرضائه بذاته؛ فإنّ رضا المخلوق بذاته لذاته ليس حالاً يدخل عليه، بل يصحبه منذ وجد، كما في العقول المجردة، فلا تزيد على ذاتها الوجود وإن زادت على ذاتها الماهية. وقوله×: «لأنّ المخلوق أجوفٌ»، إنّما كان أجوف؛ لأنّ ما هو ذاته ماهيّة خالية في ذاتها عن الوجود فضلاً عن توابعه، وإن جعلت ما هو ذاته نفس المادة التي حظّها القوّة الاستعدادية، فمعلوم خلوّها عن الكمال الأوّل والثّاني، فالممكن من حيث ذاته أجوف وكذا ناقص ومعتلّ، وما فيه كلُّها أمانةٌ وعارية من الصحيح والمضاعف أعني حقيقة الوجود.
ووصف المخلوق بـ«الأجوف» في مقابل نعت الحق بـ«الصّمد»؛ لأنّه بسيط الحقيقة، كلّ الوجود وكلّه الوجود. وتأويلُ الصمّد: ما لا جوف له؛ لأنّه من الصّمت. و«معتمل» من الاعتمال: وهو شدّة العمل كالتعمّل في لسان الحكماء المستعمل في الماهيّة الإمكانيّة؛ لأنّ «زيادة المباني تدل على زيادة المعاني». وفيه إشارة لطيفة إلى أنّ الممكن موجود بتعمّل العقل([6]) كما أشار علي× في «حديث الحقيقة» بقوله: «محو الموهُوم وصَحو المَعلُوم»([7])، وقوله×: «فَرِضاهُ ثَوابهُ»([8]) أعمّ من الثّواب الذي هو مثل المحبّة، كما قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمُ ويُحِبّونَهُ﴾([9])، ورضاه أعمّ من الرضا الذّاتي أو الفعلي، وليس كما زعم الزّمخشري أنّ محبّته تعالى لعباده كناية عن إيصال الثواب، بل محمولة على حقيقة المحبّة. ولولا المحبة ـ ولا سيّما المحبّة الإلهيّة ـ لانطمس العالَم، ولم يتكوّن آدم. ولو تفطّنتَ لرأيتَ نظام العالَم متّسقاً بالمحبّة والشوق والعشق. وفي النظرة الاُولى وإن تراءى مدخلية الخوف في التنظيم، لكن في النظرة الثانية ينكشف أنّ الأصل هو المحبّة، والخوف خادمٌ لها، وكأنّه ملك له رؤوس بعدد الخلائق يخدم المحبّة والعشق. وقد حكموا بسريان العشق، وهو في عين سريانه واحد بسيط بإسقاط الإضافات، فهو الساري العاري، والمنجمد الجاري على الدراري والذراري.
يتبع…
الهوامش:
([2]) الكافي 21: 109/3، التوحيد: 157.
([4]) الكافي 1: 110/6، التوحيد: 247/3.
([6]) لأنّ الممكن المحض هو الماهيّة الإمكانيّة التي في ذاتها ليست موجودة، ولا هويّة ولا واحدة، ولا غير ذلك، بل الممكن ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ (النور: 39). منه.