شرح دعاء الصباح 55
وبعض الأخباريّين من المعاصرين كأنّهم لم يمكنهم فقه إرادة الذات للذات، وحصروا تعلق الإرادة بالفعل، ولم يدروا أنّ في كلّ موضع متعلَّق إرادة المريدين أوّلاً وبالذات ذواتُهم؛ فالكاتب يريد ويحبّ ويعشق نفس ذاته، ويريد الكتابة بالعرض؛ لإرادة ذاته، وقسْ عليه.
قال صدر المتألهين+: «الإرادة رفيق الوجود، والوجود في كل شيء محبوبٌ لذيذٌ، والزيادة عليه أيضاً لذيذةٌ؛ فالكامل من جميع الوجوه محبوبٌ لذاته([1]) ومريدٌ لذاته بالذات، ولِما يتبع ذاتَه من الخيرات اللازمة بالعرض. وأمّا الناقص بوجه، فهو أيضاً محبوب لذاته لاشتماله على ضرب من الوجود، ومريدٌ لِما يكمل ذاته([2]) بالذات، ولِما يتبع ذاته بالعرض. فثبت أنّ هذا المسمّى بالإرادة أو المحبّة أو العشق أو الميل أو غير ذلك سارٍ كالوجود في جميع الأشياء، لكن ربّما لا يسمّى في بعضها بهذا الاسم بجريان العادة([3]) والاصطلاح على غيره أو لخفاء معناه عند الجمهور، كما أنّ الصور الجرميّة عندنا إحدى مراتب العلم، ولكن لا يسمّى بالعلم إلّا صورة مجردة عن ممازجة الأعدام والظلمات»([4]). هذا كلامه بأدنى اختصار، فظهر أنّ الارادة تتعلّق أوّلاً بالذّات، وظهر أيضاً أنّ الإرادة عين الذات الواجبة، بل عين كل وجود، كيف بالوجوب الذي هو بحت الوجود؟!
والمخالف في هذا رئيس المحدثين أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني+، نظراً إلى ظاهر بعض الأخبار([5]). واحتجّ أيضاً على أنّ الإرادة زائدة على ذاته تعالى بأنّ إرادة الله تعالى لا يصحّ أن تكون عين علمه سبحانه؛ فإنّه سبحانه يعلم كلّ شيء، ولا يريد كلّ شيء؛ إذ لا يريد شرّاً، ولا ظلماً، ولا كفراً، ولا شيئاً من القبيح أو الآثام. فعلمه تعالى متعلق بكلّ شيء، ولا كذلك إرادته؛ فإرادته أمرٌ آخر وراء علمه، وعلمه عين ذاته، فإرادته أمرٌ آخر وراء ذاته([6]).
وهذه شبهة قد استوثقها في الكافي، وليست وثيقةً، وينحسم مادّتها بتحقيق مسألة الخير والشـر، والفحص عمّا دخل فيهما بالذات، وعما نسب إليهما بالعرض، وإرجاعهما إلى الوجود والعدم([7]). وسنتكّلم في هذا الشرح الوجيز إن ساعَدَنا التّوفيق.
وأيضاً قد علمتَ أنّ الإرادة فيه تعالى عين العلم فكيف يتفاوت المتعلّق؟
وأيضاً احتجاجُه منقوضٌ بالعلم والقدرة؛ إذ العلم يتعلّق بكلّ شيء حتى الممتنعات، والقدرة لا تتعلق بها([8]) كما قال المتكلّمون: إنّ معلومات الله أكثر من مقدوراته.
وأيضاً له تعالى إرادة إجماليّة وإرادة تفصيلية، والأُولى في الحقيقة إجماليّة من وجه وتفصيلية من وجه، وهي إرادته تعالى بالنسبة إلى الصّادر الأوّل، والثانية بالنسبة إلى الكلّ؛ فإنّ كلّاً في مرتبته ووقته مرادُه سبحانه ولو بالوسائط، فإنّ ما عدا الصّادر الأوّل من لوازمه المرتبة، وإرادة الملزوم إرادة اللازم. وحقيقة ذلك وسرّه كون الصادر الأوّل ـ لبساطته ـ جامعاً لحقائق ما دونه، فإرادة الكلّ منطوية في إرادته. والإرادة التفصيلية بالنسبة إلى الأشياء تسمّى «أوامر الله»([9])
التشريعيّة والتكوينيّة، وكذا حكم الكراهة المنطوية في كراهة عدم الصادر الأوّل؛ فالمعصية والشرّ والضرّ إنّما هي في الإرادة التفصيلية ـ وهي ليست عين ذاته تعالى ـ لا في الإرادة التفصيلية بالنسبة إلى الصادر الأوّل الإجمالية بالنسبة إلى ما عداه.
يتبع…
الهوامش:
([1]) ففي قوله: «محبوب» إشارة إلى أنّه إرادة بمعنى المراديّة، وفي قوله: «لذاته» دلالة على أنّه إرادة بمعنى المريدة، وهو وجود بحت؛ فالوجود مساوق مع الإرادة بكلا المعنيين. منه.
([2]) أي عاشق لما يقوّم ذاته، وكلّ سافل متقومٌ بالعوالي، وكلّ وجود متقوّم بالوجوب. منه.
([3]) وذلك لأنّ أكثر الأذهان مستغرقة في المفاهيم، ولا يتخطّون إلى عالم الحقائق. ثم من الحقائق لا يلتفتون إلاّ إلى وجود الأعراض إذا سمعوا الصفات، فيسهل عليهم أن يدركوا من العلم الصّورة الذهنيّة الحاصلة، ومن الإرادة الميل القائم بالنّفس وهكذا، ويصعب عليهم أن يعرفوا أنّ وجود النفس الناطقة ـ مثلاً ـ عين علمه بذاته، وعين إرادته، وعشقه لذاته. فإذا قلت بدل قولك: «إن النفس متعلّقة بالبدن»: علم متعلّق، أو عشق، أو إرادة ومشيّة، يصعب عليهم فهمه، بل في الوجود والإيجاد الأمرُ هكذا، فليتفتون إلى المفهوم البديهيّ. فإذا قيل: إنّ الله تعالى وجودٌ، ربما يذهب إلى المفهوم؛ أو يقال له: الإيجاد، يذهب إلى الإضافة المقوليّة، والحال أن الإيجاد الحقيقي الذي به يُوجدُ الشيء هو حقيقة الوجود المنبسط الذي هو إضافته الإشراقيّة.
ومن هنا توهّم «الإمام الرازي» من قول الحكماء: «إنّ الحقّ وجودٌ بلا ماهيّة» أنّه مفهوم الوجود البديهي عندهم، فقال ردّاً عليهم: «إنّ مفهوم الوجود بديهي، وحقيقة الواجب غير معلومة».
وقال «العلاّمة الدّواني» في بيان أن حقيقة الواجب تعالى هو حقيقة الوجود، وأنّ الأشياء منتسبات إليها: «إنّ كثيراً منهم وقعوا في الهرج والمرج من استماع قول الحكماء: «إنّه وجود بحتٌ، أو وجود مطلق»؛ وذلك لأنّ ذهنهم ذهب إلى الوجود المفهوميّ المطلق». منه.
([7]) ومعلوم ان العدم بما هو عدمٌ نفيٌ محض، وباطلٌ صرف؛ ولهذا لا يراد الشرّ. وإذا لم يتعلّق الإرادة به لكونه لا شيئاً، فلم يتعلّق به العلم لهذا بعينه وإن لوحظ وجوده الفرضي، وكونه مفهوماً صادقاً على نفسه بالحمل الأوّليّ ليصحّ تعلّق العلم به، فصحّ بهذا اللّحاظ تعلّق الإرادة؛ إذ لا يكون شيء في صقع الوجود أيّ وجود كان ـ ولو فرضاً ـ بدون إرادته ومشيّته: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ﴾(الإنسان: 30) وهذا أيضاً من موارد ما ذكرنا من عدم الالتفات إلى الحقائق، وأنّ التّفاوت باعتبار المفاهيم؛ فحكم حقيقة العلم والإرادة في الواجب بالذات تعالى شأنه واحدٌ. منه.
([8]) أي والحالُ أنّ العلم والقدرة كليهما عين ذات الله تعالى ولو عند صاحب هذا الاحتجاج. منه.
([9]) أي عند المتكلّمين تسمّى إرادته: «أمراً تكوينيّاً، وأمره بالصّلاة والزكاة وغيرهما: «إرادة». منه.