شرح دعاء الصباح 53
﴿وَأنتَ غايةُ السُّؤلِ وَنِهايَةُ المأمُولِ﴾
«السُّؤل»: المسؤول([1])، قال تعالى: ﴿لَقد أوتِيتَ سُؤلَكَ يا مُوسى﴾([2]). قد خرج من السّابق أنّه تعالى مطلوب الإنسان سيّما الكامل منه، وغايةُ مناه. وقد خرج عن هذه الفقرة المباركة أنّه تعالى مطلوب الكلّ وذلك لوجوه:
مِنها: قوله تعالى: ﴿ما خَلقُكُم وَلا بَعثُكُم إلّا كنَفس واحِدَة﴾([3]).
ومِنها: أنّه تعالى مطلوبُ الإنسان الكامل ومعروفُه، والإنسان الكامل مطلوب الكلّ، فإنّه مركز تدور الجميع عليه، وكنز مخفي يطلبون معرفته.
ومِنها، أنّ كلّ موجود يحبّ الوجُود، ولهذا مهما تغْرز إبرة على نملة تنقبض وتهرب خوفاً من العدم، ويحبّ الفردانيّة، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ حِزب بِما لَدَيهِم فَرِحُونَ﴾([4])، ويطلب مظهريّة مَنْ لَيْسَ كَمثْلِهِ شيءٌ، وكذا يحبّ الحياة والعلم والقدرة والغناء وغيرها من توابع الوجود، والوجودُ وتوابعه من الله([5])، وبه وإليه؛ ولذا قال بعض الحكماء: «لابدّ أن يكون في الوجود وجودٌ بالذّات([6])»([7]). وفي العلم علمٌ بالذّات، وفي الإرادة إرادة بالذّات، حتّى تكون هذه في شيء لا بالذّات، وكلّ طالب يطلب شيئاً آخر فذلك الآخر من جهة النّورانيّة يُطلَبُ، وهي وجه الله ونور الله، ففي الحقيقة هو المطلوب ولكنّ أكثرهم لا يشعرون. والمزيّة بالاستشعار، والفضل لأُولي الأيدي والأبصار.
وَمِنها: أنّ الحركة في الأجسام والجسمانيّات معلومة مشاهدة، جوهريّة أو عرضيّة، كيفيّة أو كميّة، وضعيّة أو أينيّة؛ وفي النّفوس أيضاً مكشوفة تجوهراً أو تكيّفاً في الحالات والمَلَكات. والحركة طلب طبيعي أو نفساني، والطّلبُ لابدّ له من مطلوب، ومطلوبُ كلّ الأجسام الفلكية هو العقول، ومعشوق العقول هو الله، ومطلوب جميع الأجسام([8]) العنصريّة ـ بسائطها ومركبّاتها؛ معدناً كانت، أو نباتاً، أو حيواناً ـ هو الإنسان، فيطوفون حول هذه الكعبة المقصودة، ويفدون أنفسهم، ويقرّبون له قرباناً كما مرّ. ثمّ الاُناس مطلوب كلّ دانٍ منهم: عاليهم، ومطلوبُ كلّ عالٍ: أعلى منه، وهكذا، إلى ربّهم الأعلى؛ فإنّك ترى طالب العلم الرسميّ يرجو أن ينال طرفاً من علم الأدب، فإذا نال، يريد أن يبلغ كماله، وإذا بلغ، يشتاق أن يصير فقيها عالماً بالفروع، وإذا صار، يحبّ أن يكون متكلّماً عالماً بالأصول، وإذا كان، يطلب أن يعلم حكمة المشّائيّة، وإذا علم، يتخطّى في الإشراق والتألُّه، وإذا تألَّه، يقصد أن يتوغّل في التألّه، وإذا توغّل، يعشق التمكّن في مقام حقّ اليقين. فالكلّ متواجدون في عشق جماله، ولولاه لجاز الوقوف على مرتبة من المراتب، واطمأنّوا بمطلب من المطالب، وليس كذلك: ﴿ألا بِذِكرِ الله تَطمَئِنُّ القُلُوبُ﴾([9]).
يتبع…
الهوامش:
([1]) أي الشيء الذي يقع في سياق السؤال ويكون مطلوب السائل، وليس هو الذي يُسأل من أجل تحقيق المطلوب، فالله تعالى هو غاية ما يطلبه المؤمن.
([5]) أي ابتدأ منه لأنّه الوجود الصّرف الجامع لسنخ وجود أيّ شيء كان ـ كما هو حكم كلّ صرف، وصرف كلّ شيء ـ سابقٌ على مشوئه، والبسيط مقدّم على المركب، «كان الله ولم يكن معه شيء»
وقولنا: «به»، معناه أنّ كل موجود به موجود، كما قال تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ (الأحقاف: 3). والفيض المقدّس ـ وهو الوجود المنبسط الذي به وجود كلّ موجود ـ ممكن. وفي كلّ بحسبه، يسمّى عند قوم «بالحقّ المخلوق به»؛ أخذاً من هذه الآية الشريفة.
وقولنا: «وإليه» إشارة إلى قولهم: «التوحيد إسقاط الإضافة» فكما أنّ في الابتداء كان وجود صرف بسيط، كذلك في الانتهاء؛ فإنّ العارض يزول: «إن إلى الله الرجعى وأنّ إليه المنتهى». منه.
([6]) أي لا قيام صدوري له بما فوقه وبالفاعل، ولا قيام حلوليّ له بالقابل ولو كان عروضاً عقليّاً بماهيّة تحليليّة في اعتبار العقل؛ إذ لا ثاني له، كما قال «الشيخ» في إلهيّات الشفاء: «الموجود المطلق لا مبدأ له». ومعنى كلامه أنّ حقيقة الوجود المطلق بمعنى الواسع المحيط لو كان له مبدأ، كان موجوداً؛ لأن مبدأ الموجود موجودٌ، فما فرضته موجوداً مطلقاً، لم يكن موجوداً مطلقاً والموجود الحقيقي هو الوجود، والعلم بالذّات هو العلم الحضوري لذات المجرّد عن الماهيّة، فضلاً عن المحل، بذاته والإرادة بالذات ابتهاج الذات بالذات. منه.
([7]) القائل هو أبو نصر الفارابي في الفصوص، الفصّ: 18.
([8]) لأنّه النوع الأخير المشتمل على كلّ الأنواع وكلّ الفصول، وكمالاتها مشمولة لفصله الأخير، كما مضى أنّ الكلّ من فضالة طينته. ولو سلكنا مسلك الإشراق: إنّ كل نوع بصدد الاستكمال حتّى يتّصل بربّ النّوع، كان هو المطلوب؛ لأنّ نسبة الأرباب إلى الأرباب نسبة الأصنام إلى الأصنام عندهم، ومطلوبه هو الله تعالى. منه.