شرح دعاء الصباح 51
﴿كَلّا، وَحِياضُكَ مُتْرَعةٌ في ضَنكِ المُحُوِلِ﴾
أي حاشاك عن ذلك، وحياضك ممتلئة في وقت ضيق القحط. و«المحل»: الجدْب، وانقطاع المطر. وزمانٌ ومكانٌ ماحل، وأرضٌ مَحل ومَحْلة ومَحول ومُحول: أي ذوات جدب.
والتّأويلُ: أنّ المراد بحياضه: ينابيع ماء حياة الوجود، وسُحُب أمطار النفوس من السماويّة والأرضيّة. وتلك الينابيع مراتب علمه، ودرجات قدرته، وأقلامه وألواحه العالية، قال تعالى: ﴿وَإنْ مِنْ شَيء إلّا عِندَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزلُ إلّا بِقَدَر مَعلُوم﴾([1])؛ فعلمه غير متناهٍ حيطةً، وقدرته غير متناهيةٍ عموماً وشدّة، وفيضه لا ينقطع، وكلماته لا تنفد ولا تبيد([2])، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لَو كان البَحْرُ مداداً لِكَلِماتِ رَبّي لَنَفِدَ البَحرُ قَبلَ أن تَنفَدَ كَلِماتُ رَبّي وَلَو جِئنا بِمِثِلِهِ مَدَداً﴾([3])، والكلّ مغترف من هذا البحر المحيط، ولا ينقص منه شيء؛ وحينئذ «ضنكُ المحولِ»: خُلُّو الماهيّات في ذواتها، وعري المواد في جواهرها ولو في حال تلبّسها بماء حياة الوجود([4])، واكتسائها حلل الصُّوَر والنّفوس، فلم يكن لها إلّا التّصحح والتهيّؤ والقبول. ولو لم يكن لها من الأعدام والفَقد والبؤس إلّا هذا، لكفى في «ضنك المحول». كيف، وبعد ردّ الأمانة إلى أهلها، وعود العوائد والفوائد إلى مالكها، كان أمرُ الجدب والغلا أمرّ وأدهى؟
وَما الرّوُح وَالجُثمانُ إلّا ودَيَعةً | وَلابُدَّ يَوماً أن تُردَّ الوَدائعُ([5]) |
وهو تعالى في كلّ حال على حالة واحدة لا ينقص من خزائنه ذرّة، ولا ينفد من حياضه قطرةٌ؛ لأنّ الإفاضة معناها: أن ينزّل الفيض من الفيّاض بحيث لا ينقص عنه شيء، وإذا رجع إليه لا يزيد عليه شيء؛ لأنّ المُفيض هو حقيقة الشيء، والمستفيض هو الفيء، وفيء الشيء من حيث هو فيء ليس شيئاً على حياله؛ فحوضه الكوثر أبداً مشحونٌ، وكل ظمآن منه ريّانٌ، ومخزنه الأوفر سرمدٌ مكنونٌ، وكلّ غرثان منه شبعان.
يتبع…
الهوامش:
([2]) أي كلماته التكوينيّة، كما في القرآن: ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾ (آل عمران: 45). ومن المأثورات عن الأئمة: «نحن الكلماتُ التّاماتُ» وقد مرّ أنّ الوجودات كلّها كلماتٌ، فهو تعالى دائماً متكلّم لا يجوز عليه الصّمت. و«البحر»: بحر الموادّ. و«المداد»: الإمكان والاستعداد لا نظلامهما. وإنّما «لا تنفد»؛ لأنّه تعالى غير متناهي القدرة في الفعال، ومادة المواد غير متناهية القوّة والقابليّة في الانفعال؛ فيفيض الكلمات على الاتّصال: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ (البقرة: 106). منه.
([4]) إذ في حال التلبّس لم يصر الوجود عيناً ولا جزءاً لها، ومرتبة ذاتها خالية عنه. وكذا الكلام في المواد والصّور والنّفوس؛ فلولا النفوس والصّور بقيت الموادّ عاطلة مظلمة موحشة: «يا نور المستوحشين في الظُّلم» [مصباح المتهجّد: 85/910]، والنفوسُ نور الله تعالى. منه.
([5]) ذكره كذا في شرح الأسماء الحسنى 1: 249، 2: 70، أيضاً، والمصادر كلها تذكرة بصورة: «وما المال والأهلون إلّا ودائع» انظر مثلاً: معاني الأخبار: 195/5، الاستذكار 3: 82، شرح نهج البلاغة 19: 290.