حول الإنسان/ الوجه (40)
ومن الوجوه المجازيّة وجه النهار، وهو أوّله، قال تعالى: ﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾([1]). وقد روي أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن جماعة من علماء اليهود وعظمائهم تعاهدوا على أن يدخلوا على رسول الله| جماعة أو فرادى، فيُسْلموا على يده في أول النهار، ثم يرتدّوا عن إسلامهم المزعوم في آخر النهار، فإذا سألهم الناس ـ ولا بدّ أن يسألوهم عن ذلك ـ قالوا لهم: إنا ظننّاه أنه النبي المبعوث في آخر الزمان، فلمّا رجعنا إلى كتبنا وأحبارنا رأينا أن صفاته لا تتّفق مع ذلك النبي المذكور، فرجعنا عن الإيمان به. فلعلنا بهذا الاُسلوب نقدر على زعزعة إيمانهم بمحمد، فيتراجعوا عن إيمانهم به([2]).
وأما الوجه الحقيقي، فهو وجه الإنسان والحيوان وأمثالهما، وهو في الإنسان تلك القطعة الأمامية من الرأس، الخالية من الشعر إلّا في خطوطٍ معيّنة، وهي المعنيّة بقوله تعالى: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾([3]). وقد حدّدها الشرع الشريف بأنها من قصاص شعر الجبهة إلى طرف الذقن طولاً وما دارت عليه الوسطى والإبهام عرضاً. وإنما سميت وجهاً لأن بها تكون مواجهة الناس بعضهم لبعض، فلا لوم على الإنسان أيّ إنسان لو ستر يديه أو قدميه أو عنقه أو أي شيء من جسمه عن الآخرين من بني نوعه، ولكن لو ستر عنهم وجهه، أو أعرض عنهم به فإنه لا يقبل منه، ويلام على ذلك حتى من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾([4]). والتصعير هو الإعراض.
فمعنى ذلك أن الله سبحانه ينهى هذا الإنسان أن يُعرض بوجهه عن الناس تكبّراً عليهم، قال الشاعر:
يا أخي لا تمِل بوجهك عنّي أنت مثلي من الثرى وإليه |
ما أنا فحمةٌ وما أنت فرقدْ فلماذا يا صاحبي التيه والصدْ |
وفي الوجه أكثر حواسّ الإنسان ومحاسنه، كالعينين؛ ولذا قال يوسف الصديق× لإخوته: ﴿اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾([5])، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾([6]).
وبما أن في الوجه أكثر الحواسّ والمحاسن الفاتنة، فقد أوجب بعض الفقهاء تغطيته على المرأة احتياطاً، وعارض ذلك الكثير ممّن أرادوا إشاعة السفور بوجه أو بآخر، فقالوا: إن هذا خلاف الحكمة؛ لأن الإنسان مجبول على حبّ الاستطلاع، فإذا رأى شيئاً مستوراً عنه حرص أن يرى ما هو ذلك الشيء المستور، ولكنّه لو كان مكشوفاً أمام عينيه ونظر إليه لاقتنع.
وهذا القول غير صحيح؛ لأنه إنما يقتنع إذا رأى شيئاً لا يعجبه، أمّا إذا رأى شيئاً يعجبه فإنه يفتتن به ويندفع إليه، وربما يستميت على أن ينال منه. ومن ذا الذي يصدق أن الظمآن يروى برؤية الماء وإن لم يشرب منه، وأن الجائع يشبع برؤية الطعام وإنْ لم يأكل منه؟ ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾([7]).
وقالوا أيضاً: إن الحجاب عقبة في طريق المرأة يحول بينها وبين الوصول إلى العلم.
وهذا القول أيضاً غير صحيح؛ فقد وافانا التأريخ بكثير من النساء العالمات من اُمّهات المؤمنين وغيرهن من نساء الصحابة والتابعين، وحتى في زماننا اليوم.
ومهما نسينا فإنا لا ننسى الشهيدة العظيمة بنت الهدى التي استشهدت مع أخيها الصدر بتاريخ (24 / 5 / 1400)هـ . ورحم الله الشيخ عبد الحسين الأزري المتوفى بتاريخ (21 / 4 / 1374)هـ حيث يقول في همزيته العصماء:
زعموا دواءك في السفور وما دروا أو لم يروا أن الفتاة بطبعها من يكفل الحسناء بعد سفورها ليس الحجاب بمانع تهذيبها أو لم يسغ تعليمهن بدون أن ويجلن ما بين الرجال سوافراً وكأنّما التهذيب ليس بممكنٍ ما في الحجاب سوى الحياء فهل من الـ |
أنّ الذي وصفوه عين الداءِ كالماء لم يحفظ بغير إناءِ ممّا يجيش بخاطر السفهاءِ فالعلم لم يرفع على الأزياءِ يملأن بالأرداف عين الرائي بتجاذب الأرداف والأثداءِ إلّا إذا برزت بدون غطاء ـتهذيب أن يهتكن ستر حياءِ |
فعلى المرأة المسلمة أن تستر محاسنها، وهي تعلم أن أكثر محاسنها في وجهها، وعلى الرجل المسلم أن يغضّ نظره؛ فـ «كم نظرة جلبت حسرة»([8])، وتلك الحسرة إمّا أنْ تحصل بالحبّ القاتل، أو بالفاحشة المهلكة.
ومن عجيب ما جعل الله في هذا الوجه أنه أشبه شيء بالرادار لما يجول في خواطر الإنسان، ففي حالة الحاجة إلى السؤال يظهر الذلّ على وجهه؛ ولذا كان الإمام الحسن× يعطي السائل قبل أنْ يسأله، وينشد:
نحن اُناس نوالنا خضلُ تجود قبل السؤال أنفسنا |
يرتع فيه الرجاء والأملُ خوفاً على ماء وجه من يسلُ([9]) |
وإذا حصل له ما يسوؤه يسودّ وجهه، قال تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾([10]). وحتى في يوم القيامة، فقد قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾([11]).
وجاء في دعاء الوضوء لمولانا أمير المؤمنين× أنه قال عند غسل وجهه: «اللهم بيّض وجهي يوم تبيضّ فيه الوجوه، ولا تسوّد وجهي يوم تسودّ فيه الوجوه» ([12]).
وإذا يحصل له الفرح تشرق أسارير وجهه، وفي حالة الحزن يشحب لونه، وفي حالة الخوف يتغير وجهه. كما تغير وجه الحسين عندما خاف على ولده الأكبر’.
الهوامش:
([2]) تفسير القمّي 1: 105، التفسير الكبير 8: 99.