حول الإنسان/ الوجه (39)
قال تعالى:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾([1]).
الوجوه المذكورة في القرآن الكريم جاءت على ثلاثة معانٍ: وجهٌ كنائي، ووجهٌ مجازي، ووجهٌ حقيقي:
فالوجه الكنائي هو الوجه المنسوب لله جلّ وعلا؛ فإذا قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾([2])، أو قال جلّ وعلا: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾([3])، فالوجه هنا كناية عن الذات المقدّسة؛ لأنهم لو قالوا: إن له وجهاً حقيقياً، وإن الآيتين الكريمتين أرادتا ذلك الوجه، للزم من هذا القول حصول الفناء لذاته المقدّسة جلّ وعلا؛ لأنه سيكون المعنى هكذا: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾، حتى هو جلّ وعلا فإنه سيفنى ولا يبقى منه إلّا وجهه. وهكذا يكون معنى الآية الثانية أيضاً، والفناء شيءٌ لا يجوز عليه سبحانه؛ فهو الموجود الأزلي، والدائم الأبدي.
إذن فالمراد بالوجه في الآيتين الكريمتين هو الذات المقدّسة.
وإذا كانت ذاته جلّ وعلا في كلّ مكان لأنه لا يخلو منه مكان، ولا يحويه مكان، فقوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾([4])، أي أينما تولّوا وجوهكم فثمّ ذات الله المقدّسة.
وربّما يراد من الوجه المنسوب إليه جلّ وعلا رضاه، كما في آية ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ وما ماثلها من الآيات، فإن المقصود منها رضا الله سبحانه وتعالى.
وفي كتاب (مجمع البحرين) عن أبي الصلت الهروي أنه سئل الرضا× عن معنى الحديث القائل: «إن ثواب لا إله إلّا الله النظر إلى وجه الله»، فقال×: «من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله أنبياؤه ورسله وحججه الّذين يُتوجّه بهم إلى الله وإلى دينه، والنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة» ([5]).
وتحديد قبلة الصلاة لا يعني تحديد ذات الله المقدّسة في مكانٍ معيّنٍ أو في جهة معيّنة، وإنما ضرورة الوحدة والتنسيق بين المسلمين تفرض توجّههم في الصلاة إلى جهة واحدة. وتحويل القبلة من جهة إلى جهة؛ إنما جاء لأسباب معيّنة وظروف خاصّة، وليس له علاقة بمكان وجود الله جلّ وعلا، وأنه انتقل من هذا المكان إلى هذا المكان، بل هو في كلّ مكانٍ ولا يخلو منه مكانٌ: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾([6]).
وقد قيل: إن سبب تحويل القبلة إلى الكعبة جاء بسبب أن الكعبة المكرّمة كانت عظيمة في نفس الرسول|؛ لأنها أعظم شعائر الله في الأرض حيث إنها أول بيتٍ وضع للعبادة الله في الأرض، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾([7]). وعلى قدر ما كان عنده| من التقوى كان عنده لها من التعظيم، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾([8]). ولمّا كان| بمكّة المكرّمة كان بوسعه أن يجمع بين القبلتين في صلاته، ولكنّه لمّا هاجر إلى المدينة المنوّرة لم يكن بوسعه ذلك؛ لأن الضدّين لا يجتمعان؛ فحصلت في نفسه الشريفة الرغبة في أن يحوّل الله قبلته إلى الكعبة؛ لئلّا يستدبرها في صلاته.
وزاده| رغبةً في ذلك؛ أن الكعبة كانت هي القبلة الاُولى قبل أن يوجد بيت المقدس؛ وأن اليهود الذين في المدينة يتبجّحون بقبلة المقدس، ويعيّرن النبي| باستقباله لها، ويقولون: محمد يكفر بديننا ويصلّي إلى قبلتنا. فازدادت بذلك رغبته| في تحويل القبلة، وبدأ| يسأل ربه جلّ وعلا في ذلك، فاستجاب له، وحوّل قبلته، قال تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾([9])، قال الشاعر:
كم للنبي المصطفى من آيةٍ لمّا راى الباري تقلّب وجهه |
غرّاء حار الفكر في معناها ولّاه ايمن قبلة يرضاها([10]) |
وعلى أي حال فإن الوجه المنسوب إليه جلّ وعلا هو وجه كنائي.
وأمّا الوجه المجازي، فوجه البيت أيّ بيت، وهو الجهة التي فيها بابه، وبذلك يكون ظهر البيت هو الجهة المعاكسة للجهة التي فيها بابه، قال تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([11]).
يتبع…
الهوامش:
([5]) مجمع البحرين 4: 473 ـ وجه.