حول الإنسان/ العينان (34)

img

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ([1]).

العينان من أجلّ نعم الله على الإنسان؛ ولذلك فقد قرّره بهما في هذه الآيات الكريمة لكي يشكره عليهما. ولما كانت الحاجة إلى العينين ماسّة، وقد اقتضت الحكمة أن يكونا في غاية الرقّة والدقّة واللين، فقد وقاهما الله برحمته بضروب من الوقايات؛ فوضعهما في حفرة من العظم، وجعل حولهما عظاماً صلبة، وغطّاهما بالاجفان([2]) التي تنفتح وتنغلق بسرعة فائقة حتى صار يضرب بها المثل في ذلك فيقال (أقل من رد الطرف) وقد جاء في قصة سليمان بن داوود’ لما أراد أن يستحضر عرش بلقيس ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ([3]): وصانهما بالأهداب، وجعلهما اثنتين، فإذا ما اُصيبت إحداهما بقيت الاُخرى سليمة، وجعلهما في الرأس لارتفاعه؛ لتكون مسافة البصر بهما أكبر وأبعد، وليكونا أقرب للدماغ؛ لأن العصبة التي فيها الروح الباصرة النازلة من الدماغ دقيقة جداً لا تتحمل المسافة البعيدة.

ثم فصل بين الرأس والجسد بالعُنق؛ ليستطيع الإنسان أن يدير وجهه من هاهنا وها هنا؛ لتبصر العين ما يستتر عنها من جهة اليمين والشمال، وجعلهما أمام البدن لتكونا حارستين للأعضاء التي غطاؤها رقيق كالبطن، ولأن حركة اليدين والرجلين من الأمام، فتكونا مشاهدتين لأعمالهما.

وقد روي أن الإمام الصادق× ناظر طبيباً هندياً في مجلس المنصور، فكان فيما قال له: «أتدري لِم كان للجبهة تخطيط وأسارير؟ ولم كان الحاجبان من فوق العينين؟ ولِم جعل الأنف بينهما؟ ولِم كانا كاللوزتين؟». فقال: لا أعلم. فقال الإمام×: «جُعلت الأسارير والتخطيط في الجبهة لتحبس العرق الوارد من الرأس إلى العينين قدر ما يميطه الإنسان عن نفسه، كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه. وجُعل الحاجبان فوق العينين ليوردا عليهما من النور قدر الكفاية، ألا ترى يا هندي أن من غلبهُ النور جعل يده على عينيه ليورد عليهما قدر كفايتهما منه؟ وجعل الأنف بينهما ليقسم النور بينهما. وكانت العينان كاللوزتين ليجري فيهما الميل بالدواء ويخرج منهما الداء، ولو كانت مربعة أو مدورة لما جرى فيها الميل، ولما وصل إليها به دواء، وما خرج منها داء»([4]).

قالوا: وتتكوّن العين من ستّ طبقات، وهي: الملتحمة والصلبة والقرنيّة والمشيميّة والقزحيّة والشبكيّة. واختصرها بعضهم إلى ثلاث طبقات:

1ـ الطبقة الخارجية، وهي الصلبة، أي بياض العين.

2ـ الطبقة الوسطى، وتدعى المشيميّة، وهي غشاء وعائي أسمر اللون أو أسود، موضوع في داخل الصلبة، وظيفته امتصاص الأشعة الضوئية.

3ـ الطبقة الداخلية، وتدعى الشبكية، وهي لا تزيد على سمك الورقة، ولكنّها تتألّف من تسع طبقات مختلفة، أبعدها في الداخل ويتألّف من نحو ثلاثة ملايين مخروط، ومن نحو ثلاثين مليون إسطوانة. فسبحان الخلّاق العليم.

وتتكون العين أيضاً من ثلاث رطوبات:

1ـ الرطوبة المائيّة.

2ـ الرطوبة البلّوريّة.

3ـ الرطوبة الزجاجيّة، وموضعها خلف الرطوبة البلّوريّة.

وهذه الرطوبات وتلك الطبقات مركّبة بتركيب محكم، ومتداخلة بنظام بديع وتقدير دقيق يدلّ على قدرة منظّمة، وحكمة مبدعة وخالقة. قال أبو العتاهية:

فيا عجباً كيف يعصى الإلـ
وفي كلّ شيء له آية
ولله في كلّ تحريكة
ـه أم كيف يجحده الجاحدُ
تدل على أنّه واحدُ
وتسكينة في الورى شاهد([5])

أمّا كيف تبصر العين المرئيات؟ فقد كان الأقدمون يظنّون أن إبصارنا للأشياء يتمّ بواسطة نور ينبعث من أعيننا فتُبصر المرئيات.

وقد ثبت الآن غير هذا وهو أن النور يأتي من الشمس أو القمر أو الكواكب أو المصباح أو ما شابهها فيقع على الجسم المرئي فينبعث من ذلك الجسم من كلّ نقطة منه أشعّة إلى العين؛ فإذا دخلت تلك الأشعّة إلى العين انكسرت أوّلاً في الطبقة القرنيّة فتجمعه وتحتفظ به لئلّا ينتشر، ثم تتجاوزها مارّةً بالحدقية (البؤبؤ) فتنكسر في الرطوبة المائيّة ثم في الرطوبة البلوريّة ثم في الرطوبة الزجاجيّة، وتقع على الطبقة الشبكيّة فتر تسم الصورة مقلوبة كما ترسمها عدسة التصوير الفوتغرافي، ثم ينتقل التأثير إلى المراكز البصرية في الدماغ عن طريق العصبتين المتقاطعتين على صورة أكس (X) الممتدّتين من البطنين المتلازمين المتقدّمين في الدماغ إلى العينين؛ فينشأ من ذلك شبح الجسم الحقيقي بصورة معتدلة، ويؤول الأمر إلى الرؤية.

إذن فسبب الرؤية هو الضياء الحاصل من الخارج، لا من العينين، وهذا هو الذي قرّره الإمام الصادق× فيما أملاه على تلميذه المفضّل& حيث قال×: «وقد جعل الله لكل حاسّة محسوساً يُعلم فيها، ولكل محسوسٍ حاسّة تدركه، ومع هذا فقد جعلت أشياء متوسّطة بين الحواسّ والمحسوسات لا تتمّ الحواسّ إلّا بها، كمثل الضياء والهواء؛ فإنه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر لم يكن البصير يدرك اللون، ولو لم يكن هواء يؤدّي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت»([6]).

ولكن قدرة الله جلّ وعلا ليس لها حدود، فهو على كلّ شيءٍ قدير، فخلق الخفّاش على خلاف هذه القاعدة، فهو كما قال الشاعر:

مثل النهار يزيد أبصار الورى نوراً ويعمي أعين الخفّاشِ([7])

وقال مولانا أمير المؤمنين×: «وَمِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ، وَعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ، مَا أرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هذِهِ الْخَفَافِيشِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَيَبْسُطُهَا الظَّلامُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ، وَكَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا، وَتَتَّصِلُ بِعَلانِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا، وَرَدَعَهَا، بِتلأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا، وَأَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلاقِهَا، فَهِيَ مسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى احِدَاقِهَا، وَ جَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي الْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا، فَلا يَرُدُّ أَبْصَارَها إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ، وَلا تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ. فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا، وَبَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا، و دَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ فِي وِجَارهَا، أَطْبَقَتِ الأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا، وَ تَبَلَّغَتْ، بِمَا اكْتَسَبَهُ مِنَ الْـمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَ مَعَاشاً، وَالنَّهَارَ سَكَناً وَ قَرَاراً!»([8]).

فقوله×: «إلى معارفها»، أي إلى ما تعرفه من طرق انتفاعها.

و«سبحات إشراقها»، أي في نور إشراقها؛ لأن السبحات هي النور.

و«ألقت الشمس قناعها»، أي شرقت وطلعت.

و«على الضباب في وجارها»، الضباب: جمع ضبّ وهو حيوان معروف.

و«وجارها»: جحورها.

و«مآقيها». المآقي: جمع موق، وهو طرف العين ممّا يلي الأنف.

و«وتبلّغت». أي اكتفت، واقتنعت.

ثم لا يخفى أن للعين وظائف اُخرى غير الإبصار، تجعل العقل في حيرة واندهاش، فإنها المرآة التي تنعكس فيها جميع المشاعر، وتشعّ منها مختلف العواطف التي تجول في خاطر الإنسان، فإذا كان مسرور الخاطر بان السرور في عينيه وإذا كان غضباناً بان الغضب فيهما أيضاً، وإذا كان حزيناً سالت الدموع من عينيه.

وقد قال تعالى في شأن نبيه يعقوب×: ﴿وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ([9])، أي ذهب سوادهما من كثرة البكاء على يوسف×. وكما تبكي العين بالحزن، فكذلك تبكي بالفرح لاسيما إذا كان مفاجئاً، قال الشاعر:

يا عين كان الدمع عندك عادةً تبكين من فرح ومن أحزانٍ([10])

وتبكي أيضاً من الخوف والشوق، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ([11]).

قال بعضهم: ولعلّها بسبب فيضان الدمع منها سمّيت عيناً؛ تشبيهاً لها بالعين التي ينبع منها الماء، قال تعالى: ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ([12]).

وقال تعالى: ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ([13]).

وفي الحديث: «خَيرُ المالِ عَيْنٌ ساهرةٌ لعينٍ نائمةٌ»([14])، أراد: العين التي تجري ولا تنقطع ليلاً ولا نهاراً، وعين صاحبها نائمة، فجعل السهر مثلاً لجريانها.

وإذا كان الإنسان غضبانَ تطاير الشرر من عينيه، وإن كان خائفاً زاغ بصره، أي كلّ، قال تعالى: ﴿إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا([15]). وإذا كان محبّاً أخبرت عنه عيناه، قال الشاعر:

وللعيون أحاديث بلا كلم كمالها في الهوى شرح وتبيانُ([16])

وكثيراً ما تناجى المحبّون بلغة النظر وأحاديث العيون، قال الشاعر:

وتعطّلت لغة الكلام وكلّمت عيناي في لغة الهوى عيناكِ([17])

ومما نسب لمولانا أمير المؤمنين× قوله:

والعين تعلم من عينَي محدثها
عيناك قد دلّتا عينيّ منك على
من كان من حزبها أو من أعاديها
أشياء لولاهما ما كنت مبديها([18])

يتبع…

الهوامش:

([1]) البلد: 8.

([2]) التي تنفتح وتنغلق بسرعة فائقة حتى صار يضرب بها المثل في ذلك فيقال (أقل من رد الطرف) وقد جاء في قصة سليمان بن داود× لما أراد أن يستحضر عرش بلقيس ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ النمل: 40.

([3]) النمل: 40.

([4]) انظر الفصول المهمّة 3: 237 ـ 238 / 2895.

([5]) ديوان أبي العتاهية: 122.

([6]) توحيد المفضّل: 22.

([7]) البيت لأمين الدولة بن التلميذ. عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء: 360، أضواء البيان 1: 16، 542.

([8]) نهج البلاغة / الخطبة: 155.

([9]) يوسف: 84.

([10]) البيت لمجير الدين الإسعردي. الوافي بالوفيات 5: 149، فوات الوفيات 2: 449.

([11]) المائدة: 83.

([12]) الغاشية: 12.

([13]) القمر: 12.

([14]) النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 331 ـ عين.

([15]) الأحزاب: 10.

([16])  شرح رسالة الحقوق: 164.

([17]) المصدر نفسه.

([18]) البيتان مثبتان في ديوان سبط التعاويذي: 490.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة