حول الإنسان/ اللسان (38)
قيل: إن القرية المذكورة في الآية الكريمة هي قرية بيت المقدس، وإن الباب هو باب بيت المقدس الذي عُرف فيما بعد بـ «باب حطّة»، فقد أمرهم الله سبحانه بدخوله سُجّداً ـ أي منحنين لعظمته جلّ وعلا ـ وأن يقولوا: ﴿حِطَّةٌ﴾، ومعناها: اللهم حطّ عنا ذنوبنا، وبذلك ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾، وجعلوا يقولون: «حنطةً» على سبيل الاستهزاء: ﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾، أي على الذين بدّلوا ما أمرهم الله أن يقولوه بقولٍ آخر ﴿رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء﴾، أي وباءً من السماء، فمات منهم في ساعةٍ واحدةٍ نحو أربعة وعشرين ألفاً جزاء ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾.
وقد روى صاحب كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستّة) عن الطبراني([1]) بسنده عن أبي ذر t عن النبي| أنه قال: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك، ومثل باب حطّةٍ في بني إسرائيل»([2]).
وروى الهيثمي في مجمعه عن أبي سعيد الخدري t قال: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوحٍ؛ من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطةٍ من دخله غُفر له»([3]). قال الفرطوسي &:
وهُمُ بابُ حطّة للخطايا من أتى داخلاً من الناس فيه |
ومفاتيح رحمةٍ ورجاءِ غفرت منه سائر الأخطاءِ([4]) |
ومُلخّص القول أن الكلمة لها دورٌ فعّال؛ فكم من «كلمةٍ جلبت نقمة وسلبت نعمة»([5])! قال الشاعر:
احفظ لسانك أيّها الإنسانُ كم في المقابر من قتيل لسانه |
لا يلدغنّك إنّه ثعبانُ عند اللقاء تهابه الأقرانْ([6]) |
وقال آخر:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلي | إنّ البلاء موكّل بالمنطقِ([7]) |
وقال ابن السكّيت&:
يصاب الفتى من عثرةٍ بلسانه فعثرته بالقول تُذهب رأسه |
وليس يصاب المرءُ من عثرة الرجلِ وعثرته بالرجل تبرا على مهلِ([8]) |
وفوق كلّ ذلك أن الله جلّ وعلا جعل الكلمة الطيّبة كشجرة طيّبة، والكلمة الخبيثة كشجرة خبيثة، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾([9]).
الشفتان
قوله تعالى: ﴿وَشَفَتَيْنِ﴾، الشفتان من الإنسان: طبقاً الفم، والواحدة شفة. وربما أن لهما دوراً هامّاً في إفراز بعض الحروف، وإخراج بعض الكلمات سميت الكلمة «بنت شفة»؛ وذلك لأن فقدان الشفتين يؤدّي إلى أنْ يفقد الإنسان قدرة التكلّم بكثير من الحروف ولاسيما الباء والفاء والميم والواو، بالإضافة إلى مساعدتهما في شرب الماء وأكل الطعام، وجمال الوجه، وستر الفم؛ فلو لا هما لكان الوجه كاشراً، والفم مكشوفاً تهجم فيه الدواب، ويتنغّص على صاحبه الطعام والشراب.
ولذا فقد امتنّ الله بهما على عباده، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾.
الهوامش:
([1]) المعجم الصغير 1: 139 ـ 140/ 391.
([2]) فضائل الخمسة من الصحاح الستّة 2: 58.
([4]) وفيه إشارة إلى قوله|: «إن الله عزّ وجلّ عهد إليّ في علي بن أبي طالب أنه أميني غداً في القيامة، وصاحب رايتي، ومفاتيح رحمة ربّي، وهو الكلمة التي ألزمتها المتّقين».
مناقب علي بن أبي طالب× (ابن مردويه الأصفهاني): 186 ـ 185، مناقب أمير المؤمنين× (الخوارزمي): 311 / 311، العلل المتناهية 1: 211/ 333، تاريخ مدينة دمشق (ترجمة الإمام علي بن أبي طالب×) 1: 82.
([5]) نهج البلاغة / الحكمة: 381.
([6]) شرح مئة كلمة: 148، الأذكار النوويّة: 235.
([7]) تاريخ بغداد 11: 406، وورد في لسان الرواية أن «البلاء موكَّلٌ بالمنطق». الفقيه 4: 378/ 5797، مسند الشهاب 1: 161 ـ 162 / 227 ـ 228.