حول الإنسان/ اللسان (37)

img

ومنها أنه جارحة النطق وآلةُ الكلام ووسيلة البيان؛ فهو الذي يُفرز الحروف، ويقوّم الكلمات، ويطرح الخطب، وينشد الأشعار، ويلقي المحاضرات. وله في كلّ فرد من الأفراد نغمة خاصة وجرس معين، وفي أي نوع من اللغات واللهجات؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ([1]).

ومعنى ﴿وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾: اختلاف أصواتكم ولغاتكم ولهجاتكم ونغماتكم، واختلافكم في الفصاحة والبلاغة، والعيّ والطلاقة، والنغمات والأجراس، حتى ولو كنتم من أب واحد واُمّ واحدة، كما كان موسى وهارون’ قال تعالى حكاية عمّا قاله كليمه موسى×: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا﴾، أي معيناً ﴿يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ([2])، يعني: إني أخاف أن يكذبوني، وليس لي قوّة على محاجّتهم؛ وذلك لما في لسانه من الحبسة واللكنة التي أصابته بسبب العطش الذي أصابه بسبب فراقه لاُمّه، وتحريم المراضع عليه.

وأما ما روي من قصة التمرة والجمرة فهو ضعيفٌ؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لوجد× حرارة الجمرة في يده قبل أن يوصلها إلى لسانه.

قالوا: وفي سؤال موسى× لربّه بقوله: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا([3])، أي معيناً. وفي سؤاله بقوله×: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي([4]) دليلاً على أن الداعي إلى الاُمور المهمّة كالأنبياء^ يكون في حاجةٍ ماسّةٍ إلى قوّة الجنان وطلاقة اللسان؛ ولذا قيل:

لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده فلم تبقَ إلّا صورة اللحم والدمِ([5])
ج

وقالوا: وقد وضح علميّاً أن بينهما علماً متبادلاً؛ فاللسان ينطق بما يحصل في القلب، حتى قيل: اللسان مغراف القلب: وما في القلب يظهره اللسان. وقال الأخطل الشاعر:

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا([6])
ج

كما أن القلب يسهل عليه حفظ ما ينطق به اللسان، ولذلك كان رسول الله| أول ما جاءه الوحي من ربّه تعالى جعل يتابع جبرئيل في قراءته من أجل أن يحفظ ما يقرؤه عليه، فأوحى الله تعالى إليه: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ([7]).

ومعنى ذلك أن الله سبحانه ضمِن له| أن يجعل ما يقرؤه جبرئيل× عليه ثابتاً في نفسه، راسخاً في قلبه من دون حاجةٍ إلى المتابعة في القراءة. فكان الأمر كذلك؛ ما قرأ عليه جبرئيل شيئاً إلّا حفظه، وما حفظ شيئاً فنسيه. وهذا ممّا تفضّل الله به عليه| حيث قال تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ([8]) فإن ﴿لا﴾ في الآية الكريمة نافيةٌ وليست ناهية؛ لأن النسيان ظاهرةٌ قهريةٌ، وما كان كذلك لا يصحّ أن يُنهى عنه، والاستثناء ما هو إلّا لإعادة الأمر إلى مشيئته جلّ وعلا، وإلّا فإن الله لم يشأ أن ينسيه، فلم ينسَ شيئاً من ذلك قط.

وبما أن القلب واللسان هما الإنسان بكامله؛ لأن «المرء بأصغريه»([9])، فإنه يطيب إن طابا، ويخبُث إنْ خبُثا. روي عن لقمان الحكيم t أنه كان في بدء امره مملوكاً، فأعطاه يوماً سيّده شاةً وقال له: اذبحها وأتِني بأطيبها. فذبحها وجاء بالقلب واللسان. وبعد أيام أعطاه شاةً ثانيةً وقال له: اذبحها وأتِني بأخبثها. فذبحها وجاء بالقلب واللسان، فقال له سيده: أمرتك أن تأتيني بأطيبها فجئت بالقلب واللسان، وأمرتك أن تأتيني بأخبثها فجئت بالقلب واللسان، فكيف ذلك؟ فقال لقمان: «هما أطيب شيء إنْ طابا، وهما أخبث شيءٍ إنْ خبثا»([10]).

وكفى اللسان شرفاً أنه لم يبعث الله نبيّاً إلّا بالكلام، وليس شيء من الأعضاء ينطق بذكر الله جلّ وعلا غيره، فما الإنسان لولا اللسان إلّا صورة ممثّلة، أو ضالّة مهملة، أو بهيمة مرسلة. ولكنّه مع ما له من المنافع والإيجابيات فإن له ما يقابلها ويزيد عليها من المضارّ والسلبيات.

وقد أخبر الكتاب والسنة أن كلام المرء من عمله، فهو مسؤول عن كلّ ما نطق به لسانه قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ([11])، فإن كان خيراً اُثيب عليه وإن كان شرّاً اُخذ به. روى الترمذي عن معاذ بن جبل الخزرجي المتوفّى سنة (18) هـ أنه قال لرسول الله|: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟

فقال|: «يا معاذ، وهل أكبّ الناس على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم؟»([12]).

وقال|: «إن الله عند لسان كلّ قائل؛ فليتّقِ الله امرؤ على ما يقول»([13]).

وسمع أمير المؤمنين× رجلاً يتكلّم بفضول الكلام، فقال له: «يا هذا، إنك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك ودع عنك ما لا يعنيك»([14]).

أقول: وربما كان العقاب من الله جلّ وعلا معجّلاً على صاحب القول في الدنيا، فقد أخبر القرآن الكريم عن قوم من بني اسرائيل أهلكتهم كلمةٌ واحدة قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ([15]).

يتبع…

الهوامش:

([1]) الروم: 22.

([2])  القصص: 34.

([3]) القصص: 34.

([4]) طه: 27 ـ 28.

([5]) ديوان زهير بن أبي سلمى: 86.

([6]) شرح المقاصد 2: 102.

([7]) القيامة: 16 ـ 18.

([8]) الأعلى: 6 ـ 7.

([9]) عيون الحكم والمواعظ: 64.

([10]) مجمع البيان 8: 82.

([11]) ق: 18.

([12]) سنن الترمذي 4: 124 ـ 125 / 2749.

([13]) التوحيد: 337/ 3.

([14]) الأمالي (الصدوق): 85 / 53.

([15]) البقرة: 58 ـ 59.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة