حول الإنسان/ اللسان (36)
ثم قال تعالى:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾([1]).
قد تقدّم الكلام عن العين. ﴿وَلِسَاناً﴾، جاء اللسان في القرآن الكريم على عدّة معانٍ، منها أنه العقب الطيّب والذكر الجميل؛ فقد قال تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم× أنه دعا ربّه فقال: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾([2])، أي واجعل لي عقباً طيّباً وذكراً جميلاً. وقد استجاب الله تعالى له، وأعطاه ما سأله، فقال تعالى عنه وعن ذرّيّته: ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾([3]). أي عقباً طيّباً وذكراً جميلاً حسناً في الناس.
فجميع أهل الملل والأديان يثنون على إبراهيم وذرّيّته، وحتى اُمّة نبينا محمد| فقد اُمروا على لسان نبيّهم الصادق الأمين| أن يقولوا: «اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ»([4]).
وقد ظنَّ البعض أن المشبّه به لابدّ أن يكون أفضل من المشبّه في جميع الموارد، وهذا أمرٌ غير صحيح، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾([5]). فأين يقع نور المشكاة من نوره جلّ وعلا؟
وفي كتاب (الكشكول) للشيخ البهائي& ما نصه: «ومن كلام الشيخ نجم الدين&، وقد سئل عن صحّة التشبيه في قولنا: اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ، مع أن رتبة نبيّنا وآله| أعلى من رتبة إبراهيم وآله، فأجاب بأنه ليس المراد من ذلك طلب إلحاقهم بدرجة إبراهيم وآله^ ليكونوا محظوظين بتلك الدرجة كما ظنّه من لا علم له بمعاني الكلام، وإنما المراد الرغبة إلى الله سبحانه أنه يفعل بهم ما يستحقّونه من الإجلال والتعظيم، كما فعل بإبراهيم وآل إبراهيم^»([6]).
قالوا: ومن معاني اللسان أنه اللغة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾([7])، أي بلُغة قومه. لماذا؟ ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ ما اُرسل به إليهم، ﴿فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾([8]).
وإنما نسب الضلال والهدى إلى نفسه جلّ وعلا لأنه لما بعث رُسله إلى الناس، وبيّنوا لهم ما يريد الله منهم، ونتج من ذلك أن منهم من آمن ومنهم من كفر؛ صحّ بهذا الاعتبار أن ينسب الهدى والضلال إلى نفسه جلّ وعلا؛ لأنه لو لم يرسل لما عرف الهدى من الضلال، ولا الكفر من الإيمان.
ومن الآيات التي أرادت اللغة واللهجة قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾([9]). وقد جاء في بعض التفاسير والكتب أن لبني الحضرمي الذين بمكة غلامٌ يقال له أبو فكيهة، أو يسار ـ وربما كان اسمه يساراً وكنيته أبا فكيهة؛ إذ لا منافاة في ذلك ـ وكان نصرانيّاً أعجميّاً قد قرأ التوراة والإنجيل، فاتبع النبي| وآمن به، وكان النبي| يجلس إليه في محلّ عمله، فقالوا: إنه هو الذي علم محمداً هذا لقرآن، فقال تعالى ردّاً عليهم: ﴿لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾، أي لغته أعجمية، ﴿وَهَذَا﴾ القرآن ﴿لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾، فكيف يكون هذا الأعجمي هو الذي علّمه إياه([10])؟
ومنها قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ﴾، يعني بلغتك ولهجتك؛ ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا﴾([11]). واللدّ: هم الذي يتشدّدون في الخصومة والجدل.
ومن معاني اللسان أنه هذه القطعة اللحمية الممدودة بين لهوات الفم، وإليه أشارت الآية التي بدأنا بها الموضوع. وهو من أعجب ما خلق الله سبحانه؛ لأنه أطوع أعضاء الإنسان للإنسان واكثرها حركة وأعظمها سرعة لا يعرف التعب والملل ولا توجد هذه الصفة في غيره في الأعضاء ولانه يقوم بعدة وظائف، منها أنه يمتلك حاسّة الذوق؛ فلا يعرف الإنسان العذب والمرّ، والمالح والماسخ، والحلو والحامض، والطيب والرديء إلّا بواسطته.
ومنها أنه الذي يحرس الجهاز الهضمي من كلّ ما يريد أن يتسرّب إليه في الطعام والشراب من العظام وغيرها.
ومنها أنه جندي الأسنان، أو ما يقوم مقامها؛ فلولاه لانزوى الطعام في فضاء الفم وزواياه، فلا تجد الأسنان إلى الحصول عليه سبيلاً؛ ولكنه الجندي القويّ الحازم الذي يخرج الطعام من فضاء الفم وزواياه ويدفعه إلى الأسنان، فتقوم بطحنه وإعداده للجهاز الهضمي.