حول الإنسان/ العينان (35)

img

وهي أيضاً تنم عمّا عليه الإنسان من عزيمة أو ضعف أو تردّد أو همة، روي أن أسرى بدرٍ لمّا عُرضوا على رسول الله| كان فيهم النضر بن الحارث العبدري، وعقبة بن أبي معيط، وكانا موثوقين في حبل واحدٍ، فلمّا عرضا على رسول الله| قال: النضر لعقبة بعد ذلك: أنا وأنت مقتولان. قال: وكيف عرفت ذلك؟ قال نظر إلينا محمد نظرة رأيت فيها القتل. فكان الأمر كما قال، فقد قتلهما رسول الله| بمكان يقال له الأثيل([1]). وهي أيضاً من مراكز الجمال في الإنسان، وتضفي على الوجه أيضاً ما يزيده جمالاً على جماله؛ ولذلك قال الشاعر:

عيونُ المها بين الرصافِة والجسرِ جلبن الهوى من حيثُ ندري ولاندري([2])

وقال آخر، وهو جرير:

إنّ العيونّ التي في طرفِها حَوَرٌ قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا([3])

وهما ـ أي العينان ـ منظار للصحّة والمرض، ودليل انحراف المزاج واستقامته، بل هما المقياس الدقيق لدى الأطبّاء لمعرفة الصحّة وتشخيص الداء، إلى غير ذلك من الأشياء. فما أعظمها من نعمةٍ! فهنيئاً لمن وفّق لأداء حقّها. قال مولانا زين العابدين×: «وأمّا حقّ البصر فغضّه عمّا لا يحلّ لك»([4]).

وعن الإمام الصادق× أنه قال: «أما يخشى الذين ينظرون إلى أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم؟»([5]).

وقبل كلّ ذلك قوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ([6]). وكما أوصى الله تعالى المؤمنين فقد أوصى المؤمنات، فقال تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ([7])؛ لأن خطر النظرة على الرجل هو خطرها على المرأة وبالعكس.

وجاء في (الكافي) حول سبب نزول هذه الآية الكريمة أن شابّاً وقع نظره على امرأة في الطريق، فسلبت لبّه، فلم ينتبه لطريقه، وارتطم بجدار زقاق، فشقّ وجهه، وسال دمه، وجاء إلى النبي| فأخبره، فنزلت هذه الآية الكريمة([8]).

وفي كتاب (الواعظ) أن ابن اُم مكتوم استأذن على رسول الله| وعنده عائشة وحفصة فقال لهما: «قوما فادخلا البيت». فقالتا: إنه أعمى. فقال|: «إن لم يكن يراكما فإنكما تريانه»([9]).

وسلام الله على أمير المؤمنين× حيث بيّن خطر تلك النظرة فقال: «كم من نظرة جلبت حسرة»([10]).

وتلك الحسرة؛ إما دنيويّة، أو اُخرويّة. فأمّا الدنيويّة فهي الحبّ القاتل، قال الشاعر:

نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ

أو اُخرويّة، وهي المؤاخذة من الله سبحانه وتعالى؛ لما يلقاه الإنسان من انجرافه للجريمة بسبب تلك النظرة الأثيمة، وإلّا فلماذا قال جلّ وعلا: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ([11])؟.

وقد روي أن يوسف الصديق× طلبت منه زليخا أن يمدّ عينيه إليها بنظرة، فقال لها: «إني أخشى العمى في آخرتي»([12]).

وكأنما استحضر يوسف الصديق× هذه الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى([13]). وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ([14]).

وما أحسن ما قاله حاتم الطائيّ:

وما ضرَّ جاراً يا ابنةَ الخيرِ أنه
بعينيَّ عَنْ جاراتٍ قوميَ غفلةٌ
يجاورُني ألّا يكونَ له سِترُ
وفي السمعِ منّي عن أحاديثِها وَقرٌ([15])

وممّا ينسب لأمير المؤمنين×:

إذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى
لسانُك لا تذكرْ بهِ عَورةَ امرئٍ
وعينُكَ إن أبدتْ إليك مساءةً
وحظُّك موفورٌ وعِرضُك صيّنُ
فكلُّكَ عوراتُ وللناسِ ألسنُ
فصّنها وقُلْ يا عينُ للناسِ أعينُ

وللعين وظائف اُخرى غير الإبصار، منها أنها المرآة التي تنعكس فيها جميع المشاعر، وتشعّ منها مختلف العواطف التي تجول في خواطر الإنسان، فإذا كان مسروراً بان السرور في عينيه، وإن كان حزيناً سالت الدموع من عينيه.

وعن الإمام الصادق× أنه قال: «النظرة سهم من سهام إبليس»([16])؛ فهي أصل الكثير من الحوادث، وهذا ما نظمه الشاعر فقال:

إن الحوادث مبداها من النظرِ
كم نظرة بلغت في قلب صاحبها
والمرء ما دام ذا طرف يقلّبه
يسرّ مقلته ما ضرّ مهجته
ج
ومعظم النار من مستصغر الشررِ
كمبلغ السهم بين القوس والوترِ
في أعين الغيد موقوف على الخطرِ
لا مرحباً بسرور عاد بالضررِ([17])

وعن الإمام الصادق× أنه قال: «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة»([18]).

وعن النبي| أنه قال: «إن زنا العينين النظر»([19]).

ومن شعر أبي شجاع الوزير الرّوذراورَي([20]) المتوفّى في سنة (15 / 6 / 488)هـ:

لاُعذّبن العين غير مفكّر
ولأهجرن من الرقاد لذيذه
قد أوقعتني في حبائل فتنة
سفكت دمي فلأسفكن دموعها
فيها بكت بالدمع أو فاضت دما
حتى يعود على الجفون محرّما
لو لم تكن نظرت لكنت مسلَّما
وهي التي بدأت فكانت أظلما([21])

وقول هذا الوزير إنما يصّح ممّن تغلبه عينه على النظرة كما يحصل للإنسان الغافل، وأما من سخّر عينه للنظرة المحرّمة فلا.

قد ورد في الحديث أن «كلّ عين باكية يوم القيامة إلّا عيناً بكت من خشية الله، وعيناً سهرت في طاعة الله، وعيناً فقئت في سبيل الله»([22]). وزاد بعضهم: «وعيناً بكت على مصاب أبي عبد الله×»([23]). وقد حصلت كلُّ هذه الاُمور الأربعة لعين أبي الفضل العباس× فالسلام عليك يا أبا الفضل العباس.

الهوامش:

([1]) بحار الأنوار 19: 259 ـ 260.

([2]) البيت لعلي بن الجهم. معجم البلدان 3: 46.

([3]) ديوان: 490.

([4]) تحف العقول: 57.

([5]) عوالي اللآلي 3: 547 / 11.

([6]) النور: 30.

([7]) النور: 31.

([8]) الكافي 5: 521 / 5.

([9]) الواعظ 7 : 170 / 10.

([10]) تحف العقول: 90.

([11]) غافر: 19.

([12]) الدعوات: 124، 306.

([13]) طه: 124 ـ 126.

([14]) غافر: 19.

([15]) ديوان حاتم الطائي (ضمن ديوان المروءة): 84، خزانة الأدب 4: 198.

([16]) الفقيه 4: 18 / 4969.

([17]) تفسير الآلوسي 18: 139، إعانة الطالبين 3: 300.

([18]) الفقيه 4: 18 / 4970.

([19]) الكافي 5: 559 / 11.

([20]) رُوْذراوَر: كورة قرب نهاوند منم أعمال الجبال، وهي مسيرة ثلاثة فراسخ. فيها ثلاث وتسعون قرية متّصلة بجنان ملتفّة، وأنهار مطّردة. منبتها الزعفران، وفي أشجارها جميع أنواع الفواكه. لها مروج وثمار وزروع، ويرتفع بها من الزعفران شيء كبير. بينها وبين همذان سبعة فراسخ، وبينها وبين نهاون سبعة فراسخ. معجم البلدان 3: 78 ـ روذراور.

([21]) الوافي بالوفيات 3: 5.

([22]) كشف الغمة 2: 311، المستدرك على الصحيحين 2: 82.

([23]) بحار الأنوار 44: 293 / 37.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة