شرح دعاء الصباح 48
﴿إلهي، كَيفَ تَطرُدُ مِسكِيناً التَجَأ إليكَ مِنَ الذُّنُوبِ هارِباً﴾
لمّا قرع الدّاعي باب رحمته الواسعة راجياً منه، هارباً لاجئاً إليه، متوسّلاً بُعراه الوثيقة، طالباً منه العفو والتّجاوز، مُستأنساً متودِّداً، واحتمل الطّرد والخيبة من سوء قابلية طارئة على نفسه، وقصور باعٍ عارضٍ لشخصه، استأنس ثانياً باستئناسه، مُضيفاً إلهه إلى نفسه، متعجِّباً من أنّه كيف يطرد المسكين المستجير مَنْ هو المجير القدير الّذي بابه مفتوح للدّاخلين، وسبيله واضح للمنيبين، وتَعاهَد أنّه: «مَنْ تَقَرَّبَ إليَّ شبراً تقرّبت إليه ذِراعاً، ومن تقرب إليّ ذِراعاً تقرَّبتُ إليه باعاً، ومن أتاني مَشْياً أتيتُهُ هَرْوَلَةً»([1])؟
و«المسكين» هو الفقير، وإن قلنا بالفرق فهنا هما واحد، كما قيل: الفقير والمسكين كالظرف والجار والمجرور، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وكما افتخر| بالفقر وقال: «الفقرُ فخري»([2]).
سأل في المناجاة المسكنة وقال: «اللهمَّ أحيني مِسكيناً، وأَمِتْني مِسكيناً، واحْشُرْني في زُمرَةِ المَساكينِ»([3]). والفقير الحقيقي مَن لا يملك فعلاً ولا صفةً ولا وجوداً، ويشهد أنّ المُلْك لله الواحد القهّار.
والفقر منه نورانيٌّ محمود، ومنه ظلمانيٌّ مذموم. الأوّل: ما عرفتَه، والثّاني ضيق المعيشة مع عدم الصبر والرّضا، بل مع الكفران، كما قال×: «كاد الفقرُ أن يَكُونَ كُفراً»([4]).
وأيضاً حاجة الممكن لإمكانه اللّازم لماهيته، وقد ورد عنه×: «الفقرُ سَوادُ الوجهِ في الدِّارينَ»([5]).
وفيه وجوه:
مِنها: أن يكون المراد بالفقرِ: الفقرُ المذموم، وهو حاجة الممكن المذكورة.
ومِنها: أن يراد بسواد الوجه: محوُ وجه النفس الموهوم، وصحوُ وجه الله المعلوم.
ومنها: أن يراد بسواد الوجه: محو وجه الله؛ إذ في الفناء المحض لا وجود للسّالك، حتّى يقال: لوجوده وجهٌ إلى ماهيّته، ووجهٌ إلى ربّه؛ فإنّه إذا بزغ نور شمس الحقيقة اضمحلّتْ ظلمات المجازات، كما إذا طلع شمس عالم الشّهادة انطمس الظلام والظِّلال. ومن هنا ورد عن المشايخ: «نهاية الفقر([6]) بداية الغناء»([7])؛ لأنّه «إذا جاوز الشيء حدّه انعكس ضدّه». ويمكن أن يحمل قوله×: «كاد الفقرُ أن يكونَ كفراً»([8]) عليه، أي كاد أن يكون ستراً محضاً بأن يصير وجود الفقير عدماً محضاً في جنب وجود الحقّ الغنيّ شهوداً أيضاً([9]). أو كاد أن يتفوّه الفقير بالشطحيّات التي تتراءى في ظاهر الشريعة أنّها كفر لو لم يُؤوَّل.
وَمِنها: أن يراد بسواد الوجه: السّوادُ الأعظم كما ورد: «عَليكُم بِالسَوادِ([10]) الأَعْظَمِ([11])»([12])، و«بالوجه» الوجودُ المطلق المنبسط الّذي هو فقر الماهيّات إليه تعالى، وربطُها به. فالفقير لابدّ أن([13]) يكون متمكنّاً في هذا السواد الأعظم. ولكون الخاتم| متمكّناً فيه، أطلق عليه الحقيقة المحمديّة؛ فإضافة «سواد الوجه» بيانية، أي الفقر هو السّواد الأعظم الّذي هو وجه الله: ﴿أينَما تُوَلّوُا فَثَمَّ وَجهُ الله﴾([14]).
وَمِنها: أن يراد بسواد الوجه: تسويدُ الظاهر بتحمّل أعباء الملامة على الكاهل في حبّ الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَلا يَخافُونَ لَومَةَ لائِم﴾([15]). قال الشاعر:
أجِدُ المَلامَةَ في هَواكَ لَذيذَةُ | حُبّاً لِذِكرِكَ فَلْيَلمنْي اللُوَّمُ |
وَمِنها: أن يراد بسواد الوجه: نُور الذّات؛ فإنّ النّورَ الأسود نورُ الّذات كما قيل:
سياهي چون ببيني نور ذاتست | بتاريكى درون آب حياتست([16]) |
والسّبب أنّ السّالك إذا وصل إلى هذا النّور خلص من التّلوين ورسخ في مقام التمكين، كما أنّ السّواد لا يقبل لوناً آخر. وعند بعضهم: نور الذّات نور أخضر. إشارة إلى الحياة الأبديّة، وفي «السّواد» أيضاً إشارة إلى هذه؛ فإنّ ماء الحياة في الظّلمات.
وبالجملة، تأويل هذه الكلمات أنّ العوالم متطابقة، وما يراه السّالكون في مكاشفاتهم ومراقباتهم بمنزلة ما يراه النائمون في رؤياهم. وكما أنّها تحتاج إلى التّعبير، كذلك ما يراه المكاشف يحتاج إلى التأويل من مكاشفاته الصّوريّة. وكما ينال العاقلة العلم، وحاكاه المتخليّة في الرّؤيا بصورة شرب اللّبن، كذلك تحاكي الخلاص من التلوين، والرّسوخ في مقام التمكين عند المكاشفة الصّوريّة بصورة النّور الأسود أو الأخضر. فليظفر الإنسان بالمآل، والمؤوّل كالمعبّر([17]) فلا يهمل الإنسان شيئاً من الطّرفين؛ لا الصّورة ولا المعنى، ولا يكون مُفرِطاً ولا مُفَرِّطاً. وهذا باب واسع نافع في النبوّات والمعاد، والله يهدي إلى سبيل الرِّشاد.
وَمِنها: أن يراد بسواد الوجه: شأمة وجه القلب وبهاؤه، كشأمة الوجه الظاهر؛ فإنّها بهاؤه وزينته.
وَمِنها: أن يراد بسواد الوجه: سواد العين؛ فإنّ سواد العين في الوجه بالواسطة، فالفقر نور العين وقرّة العين للسّالكين.
فعلى هذين الوجهين كان الكلام من باب التشبيه المحذوف الأداة([18])، فالفقر على جميع هذه الوجوه غير الوجه الأوّل، محمول على الفقر المحمود النّوري.
يتبع…
الهوامش:
([1]) حلية الأولياء 7: 68، صحيح البخاري 8: 171.
([2]) بحار الأنوار 69: 30، 49.
([3]) الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة، هامش الفتاوي الحديثة: 88.
([4]) الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة: 192.
([6]) بأن يعمّ الفقر أفعال الفقير وصفاته وذاته، فيكون في وجودها وظهورها العينيّ والذهنيّ فقيراً إلى الله. كيف، والوجود أينما كان، وكيفما كان متقوّم بالوجوب تقوّماً وجوديّاً أشدّ من تقوم شيئيّة الماهيّة بشيئيّة ماهيّة علل قوامها؟ فكما تخلية الماهيّة من ذاتيّاتها الجنسيّة والفصليّة وهمٌ كاذب لا يبقي حينئذٍ ماهيّة نوعيّة، كذلك تخلية شيئيّة الوجود عن مقوّمه الوجوديّ الذي هو الشيء بحقيقة الشيئية لا تتصوّر؛ فوجود كلّ شيء وظهوره في أيّ موطن كان منطوٍ في وجود الله الغنيّ وظهوره: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ (فاطر: 15). منه.
([7]) إيقاظ الهمم شرح متن الحكم: 185، البحر المديد 2: 416/تفسير الآية: 60 من سورة التوبة، وفيهما: «بداية التصوّف»، بدل: «بداية الغنى».
([8]) جامع الأخبار: 300/817، عوالي اللآلي 1: 39/40، 2: 179/184.
([9]) كلمة «أيضاً» إشارة إلى أنّ الوضع لابدّ أن يوافق الطّبع، أي كما أنّ الواقع كذلك ـ كما حرّرنا في الحاشية السابقة التقوُّم بالقيّوم تعالى ـ كذلك في نظر شهود الفقير الحقيقيّ وإلّا كان جهلاً، كما هو حال الجَهَلة والغَفَلة المبتلَون بتغطية الوهم، الممنوّون باحتجاب الأنانيّة السرابيّة والشّرك الخفيّ. منه.
([10]) في النسخة الحجرية: بسواد، وقد صحّحناه وفق مصادره.
([11]) كما قال الشبستري في گلشن راز، ذيل الجواب عن السؤال الثاني:
سواد الوجه في الدّارين درويش | سواد اعظم آمد بي كم وبيش |
([12]) نهج البلاغة/الكلام: 66، وفيه: «وعليكم بهذا السواد الأعظم». بحار الأنوار 33: 374/604، الجامع لأحكام القرآن 14: 74.
([13]) في النسخة الحجرية: وأن، وقد حذفنا الواو؛ لعدم صحة موقعها؛ إذ معها يصبح التأويل المصدري: لابد ومن تمكّنها، وهو خطل، والصواب: لابدّ من تمكّنها.
([16]) البيت للشيخ محمود الشبستري في (گلشن راز)، ذيل الجواب عن السؤال الثاني.
([17]) فكما أنّ ما يراه النّائم ما لم يعبّر لم يسكن قلبه؛ فيعرضُه على معبّر ماهر في التّعبير كما عبّر في القرآن: «البقرات السّمان» بسني الرّخاء و«البقرات العجاف» بسني القحط والغلاء؛ فليعرض ما يراه السّالك المكاشف الصّوريّ على مؤوّل ماهر في الحكمة والمعرفة، فكذلك كلّ ما ورد من الحقائق في كسوة الأمثلة في الشّرع المطهرّ لا بدّ أن يفحص عن تأويله ومآله، ولا يسكن القلب بالإخلاد إلى ظاهره. فليجمع الرجل الحكيم بين الأوضاع الظاهرة والباطنة. منه.
([18]) أي التشبيه المؤكَّد المقابل للمرسل الذي تذكر فيه الأداة.