شرح دعاء الصباح 47
﴿فإنّك سَيّدي وَمَولاي، وَمُعتَمدِي ورَجائي، وَأنت مَطلُوبي، وَغايَةُ مُناي في مُنقَلَبي وَمثواي﴾
«منقلبي»: مرجعي ومآلي، كما قال تعالى: ﴿وَإنّا إلى ربِّنا لَمُنقلبُون﴾([1]) مساوقاً لقوله تعالى: ﴿ألا إلى الله تَصِيرُ الاُمورُ﴾. و«المثوى»: المنزل، من «ثوى المكان، وبه يثوي ثَواءً وثُوياً، بالضّمّ». وأثوى: أطال الإقامة به، أو نزل، كما في (القاموس)([2]). وذلك المنزل هو مقعد الصدق ﴿عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾([3]). وطول الإقامة به معلوم عند أُولي الألباب؛ لأنّكم خلقتم للبقاء لا للفناء. وذلك المثوى هو المنزل الأصلي، وهذه المعابر والمقابر([4]) منازل الغربة والأمكنة العارضة. والقيامة تسمّى قيامة؛ لقيامكم عند الله على خلاف ما في الدنيا والبرزخ؛ لقيامكم عند المادّة والماهية، وبالجملة، عند عالم الصّورة. ألا ترون قيامكم عند أبدانكم، وإخلادكم إليها بحيث تكاد إنكم صرتم إيّاها، بل صرتم عينها بلا شكّ، بدون تخلل «يكاد» و«يوشك» في نظر شهود جُلّكم؟
ولا أجترئ أن أقول: «كلّكم»؛ لمكان «ضنائن الله»([5]) الّذين قال تعالى في حقّهم: «أوليائي تحت قبابي»([6])، فنسيتم أنفسكم المجرّدة الّتي هي من عالم أمر الله، وروح الله بلا جهة ووضع وأينٍ وكَمّ، وزعمتم أنّكم سُكّان الجهة السفليّة، وقُطّان المكان، ورهان الزّمان، وممسوُحون بمساحة كذا، كهذه الأحجام الّتي هي كالأغلال والسّلاسل، وتكون كلّ هذه صفات هذه الهياكل. وهذه كمدرات منبوذة في بيداء شعاع بيضاء أرواحكم القدسيّة، وساحة بلا مساحة فيفاء ضياء شموس نفوسكم النطقيّة؛ كما قال أرسطاطاليس: «البدن في النّفس، لا النفس في البدن». فأنتم غرباء أوَيتم كالبومات والغِربان، والحشرات والدّيدان إلى هذه الكهوف والبيادر من التِّربان. فتبّاً لعقولكم المنحطّة، وتعساً لهمّتكم المنبثّة: ﴿إثّاقَلتُم إلى الأرضِ أرَضِيتُم بِالحيوة الدُّنيا مِنَ الآخِرَةِ﴾([7]). فانهضوا وانتهزوا، ومن مجالسة هذه الديدان تأنّفوا، واشمئزّوا، وشمّروا أذيالكم، وفتّشوا([8]) في هذه التِّربان تفلحوا، وتجدوا ملوكاً متوّجين من قدُس الله تعالى بمكلّلة التّيجان. وقال آخر:
تو به گوهر خديو دوراني | چكنم قدر خود نمى داني |
وقال آخر:
چو آدم را فرستاديم بيرون | جمال خويش بر صحرا نهاديم([9]) |
وفي كونه تعالى مطلوب الإنسان وغاية مُناه إشارة إلى أنّ العاقل فضلاً عن المحبّ لا يُؤثِرُ غيره تعالى عليه ولو كان جَنَّةً، فضلاً عن الدّنيا. وفي القدسي قال تعالى: «يا بنَ آدَمَ، خَلَقتُ الأشياءَ لأجلِكَ وَخَلقتُكَ لأجَلي»([10])، ولم يقل: خلقتك لأجل الجنّة مثلاً. ومن أسرار إخراج آدم من الجنّة أنّه غار تعالى أن يميل إلى الجنّة([11]).
وأيضاً هو تعالى مطلوبه؛ لأنّه لا أكمل وأجملَ من الإنسان سوى الحق تعالى حتّى يكون مطلوبه دون الحقّ؛ فإنّ المطلوب من حيث هو مطلوب أرفع من الطالب من حيث هو طالب؛ إذ العالي لا يلتفت بالذّات إلى السّافل.
وجهٌ آخرُ: أن يراد بالمنقلب والمثوى: أعمّ ممّا في العقبى، فيكون المنقلب أيضاً اسم المحلّ. وقد تقرّر أنّ اسم المحل من الثلاثي المزيد على وزن اسم المفعول منه، أو كلاهما مصدر ميميّ، أي أنت مطلوبي وغاية مُناي في كلّ حركتي وسكوني، أو محلّ حركتي وسكوني، لم أجعلها إلّا وسيلة وصالك، ولم أتقرّب بها إلّا لنيل شهود جمالك.
وبالجملة، فأنت قصد ضميري، وكل أسمائك؛ إذ المباحات بالنيّة تبدّل بالحسنات. هذا بحسب التّشريع؛ وأمّا بحسب التّكوين فكلّ مطلوب إنّما هو بجنبته الخيريّة وجهته النوريّة يُطلب. وشيئيّة الشّيء بفعليّته لا بنقصه، والخير والنّور والفعليّة تعود إلى صقع الله، والحمد والملك لله: ﴿وَقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ ([12])، وإليه يرجع عواقب الثناء في الآخرة والأُولى.
تَجلّى لي المَحبوبُ مِن كُلِّ وجْهَة | فَشاهَدْتُهُ في كُلِّ مَعنىً وَصورَة |
يتبع…
الهوامش:
([2]) القاموس المحيط 3: 403 ـ ثوى.
([4]) إنّما كانت عوالم الصّور معابر؛ لأنّ الإنسان مسافر إلى الله، فلابدّ له من العبور عنها إلى عالم النّور. وإنّما كانت مقابر، لأنّ النفس إن كانت جاهلة كانت ميتة كما قال «عليّ»×:
«النّاسُ موتى وأهل العلم أحياء»
[الشجرة الطوبى 2: 388، الدر المختار شرح تنوير الأبصار 1: 44].
والبدن حينئذ كان قبراً ظلمانيّاً؛ سواء كان بدنه الطبيعيّ أو جسده البرزخيّ، بخلاف ما إذا كانت النفس حيّةً بحياة الإيمان والعلم والمعرفة؛ فانّ البدن حينئذٍ كروضة خضراء بل كان مزاره في عالم الجبروت إذا صار بالفعل جوهره اللاّهوت. وقد قال العارف:
هين، كه إسرافيل وقتند أوليا جانهاى مرده اندر گور تن |
منرده را زايشان حيات است ونما بر جهد زاوزاشان اندر كفن |
منه.
([5]) انظر البحر المديد 2: 291، قال: ورد فيهم الخبر: «إنّ الله ضنائن من خلقه ألبسهم النور الساطع، وغذاهم في رحمته».
([6]) تفسير النيسابوري 2: 159، 5: 419، 6: 348، 7: 114، فصوص الحكم: 110، 148، التعريفات: 75، إحياء علوم الدين 6: 455.
([8]) أي اعرفوا أنفسكم تعرفوا ربّكم. قال الله تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات: 21). منه.
([9]) القائل هو فريد الدين العطّار. ديوان العطار: 416.
([10]) رسائل المحقّق الداماد: 162.
([11]) فإنّه لا أحد أغيَرُ من الله عزّ وجلّ. ومن مقالات العطّار النيسابوري:
هركه در هر دو جهان بيرون ما ما زوال آريم بروى هر چه هست |
سر فرود آرد به چيزى دون ما زان كه نتوان زد به غير از دوست دست |
منه.