شرح دعاء الصباح 42
﴿إلهي قَرَعْتُ بابَ رَحْمَتِكَ بِيَدِ رَجائي﴾
لمّا ذكر الدّاعي طائفةً من فضائح أعماله، وعدّ عِضَةً([1]) من فظائع أحواله وعظائم أهواله، اضطرب اضطراباً شديداً، ودهش وتجلبب لباس الخوف من جساراته لدى السيّد العظيم والسّلطان الجليل الّذي هو أشدّ بأساً وأعظم تنكيلاً، فكاد أن يرجع كئيباً كليلاً، ويأخذه اليأس والقنوط أخذاً وبيلاً، فاستشعر رحمتَه الّتي وسعتْ كلّ شيء؛ وإنّ العبد ينبغي أن يكون في مقام الرّجاء، بحيث لو أتى بذنوب الثّقلين لم يقنط من رحمة الله وإن كان في مقام الخوف أيضاً، بحيث لو أتى بحسناتهم لم يأمن من مكر الله، لكن قال تعالى ترجيةً وتبشيراً لعبادة: ﴿لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ الله﴾([2])، وقوله: ﴿إنَّه لا يَيْئس مِن رَوحِ الله إلّا القومُ الكافِرونَ﴾([3])، وفي دُعاء أبي حمزة الثُمالي الواردة عن سيّد العابدين عليّ بن الحسين’ في أسحار رمضان: «إلهي، لَو قَرَنْتَني بالأصفادِ، وَمَنَعتَني سَيبَكَ مِن بَينِ الأشْهادِ، ودَلَلْتَ عَلى فَضائِحي عُيُونَ العِباد، وَأمَرْتَ بي إلى النّارِ، وَحُلتَ بَيني وَبَينَ الأبرارِ، ما قَطَعتُ رَجائي مِنَك، وَما صَرَفْتُ وَجهَ تأميلي لِلعَفو عَنكَ، وَلا خَرَجَ حُبُّكَ عَن قَلْبي. أنا لا أنسى أيادِيكَ عِندي، وَسَتركَ عَلَيَّ في دارِ الدُّنيا»([4]).
ونقل الغزالي في (الإحياء) عن الإمام أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر× أنّه كان يقول لأصحابه: «أنتم أهل العراق تقولون: أرجى آية في كتاب الله عزّوجلّ قوله تعالى: ﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرفُوا عَلى أنفُسِهِم لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمةِ الله﴾([5])، ونحن أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب الله قوله سُبحانه: ﴿وَلَسَوفَ يُعطِيكَ ربُّكَ فَتَرضى﴾([6])…»([7]) أراد أنّ النبيّ لا يرضى وواحدٌ من أُمّته في النّار.
وفي (الصّافي) للفيض (رحمة الله عليه): في الحديث: «أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: ﴿وَما أصابَكُم مِن مُصِيبَة فَبِما كَسَبَتَ ايدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثير﴾([8])…»([9]).
وقال الشيخ أبو علي الطبرسي في (مجمع البيان) في تفسير هذه الآية: روي عن عليّ× أنّه قال: «قال رسول الله|: «خَيرُ آية في كِتابِ الله هذِهِ الآيةُ. يا عَليُّ ما مِن خَدشِ عُود، وَلا نَكبَةِ قَدَمِ إلّا بذنب، وَما عَفَا الله عَنهُ في الدُّنيا، فَهو أكرَمُ مِن أن يَعُودَ فِيهِ، وَما عاقَبَ عَلَيهِ في الدُّنيا، فَهُوَ أعدَلُ مِن أن يُثنِّي عَلى عبدِهِ»([10]).
وقال أهل التحقيق: «إنّ ذلك خاصّ وإن خرج مخرج العموم؛ لما يلحق من مصائب الأطفال والمجانين، ومَن لا ذنب له من الأنبياء والمؤمنين والأئمّة يمتحنون بالمصائب وإن كانوا معصومين من الذّنوُب لما يحصل لهم على الصّبر عليها من الثواب» انتهى.
أقُولُ: التحقيق أنّ الآية من باب التخصّص لا التخصيص بالنّسبة إلى الأنبياء والأئمّة^؛ إذ لا مصيبة من حيث هي مصيبة بالنّسبة إليهم. والحكم في الآية معلّقٌ على هذا العنوان([11])، وهم (سلام الله عليهم) يحمدون الله على بلاياه ومصائبه، كما يشكرونه على نعمائه.
وبالجملة، لمّا استشرف الدّاعي تلك الرّحمة الواسعة، وممدوحيّة هذا الرّجاء، ومذموميّةَ القُنوط، تبدّل وحشته بالأُنس، فقال: «قرعتُ باب رحمتك بيد رجائي»، ثمّ تنبّه بأنّ المناص من هذه الأُسُود والخلاص من هذه الأُخدود: النّار ذات الوقود ليس إلّا الالتجاء بالمَلِك([12]) الودود؛ لأنّه العزيز المقتدر الّذي لا مَلجأ ولا مَهرب ولا منجى منه إلّا إليه؛ لأنّ الكلّ ملكته، ولا يردّ حكومته ولا يُدفَع إلّا برحمته عقوبتُهُ، كما في الدّعاء([13]): «أعُوذُ بِعَفوِكَ مِن عِقابِكَ، وَبِرِضاكَ مِن سَخَطِكَ… وَأعُوذُ بِكَ مِنكَ»([14]).
ونقل أنّه ذكر عند أمير المؤمنين× قول أفلاطون الإلهي: «الأفلاك قسيّ، والحوادث سهام، والإنسان هدف، والله تعالى هو الرّامي، فأين المفرّ؟». فقال×: «فَفرِّوُا إلى الله»([15]) فقال الدّاعي:
يتبع…
الهوامش:
([1]) العضة ـ بالضاد ـ: القطعة من الشيء. العين 1: 125 ـ عضو، مجمع البحرين 3: 200، 201 ـ عضة.
([4]) بحار الأنوار 91: 101، 163، 95: 88.
([9]) الصافي 2: 476، وفيه أنها قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾. هود: 114، وفي ج 5: 341 وج 7: 502 منه أنها: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾.
([11]) أي عنوان المصيبة. والمصيبة من «أصاب»، سمّيت بها؛ لأنّها تصيب قلب صاحبها. والأئمة لا تصيب البلايا قلوبهم، ولا تؤثّر في مقام أفئدتهم. واهتمامهم واغتمامهم في الموارد من باب الآداب الصّوريّة، ورعاية الظّواهر. كيف، ويقال: ينبغي للسّالك إذا وصل إليه بلاء أن يشكر ويبتهج، وإن لا يقدر فينبغي أن يرضى بأن يكون في مقام استواء النسبة، وإن لا يطق، فلابدّ أن يصبر عليه. ودون هذا المقام كفرٌ في الطريقة؛ والأئمة سادة أهل السلوك وقادتهم، وفي الأدعية المأثورة عنهم: «نحمدك على بلائك كما نشكرك على نعمائك» وقد قيل:
اى جفان توزراحت خوبتر آن جفا كه تو كنى در خشم و جنگ |
انتقام تو زجان محبوب تر با طرب تر از نواى ناى و چنگ |
منه.
([12]) كذا، وللأولى كونها: إلى الملك.
([13]) الفقرة الأولى إشارة إلى التوحيد الأفعالي، والثانية إلى التوحيد الصّفاتي، والثالثة إلى التوحيد الذّاتي. منه.
([14]) الكافي 3: 470/5679، تهذيب الأحكام 3: 185/419، بحار الأنوار 94: 88، 95: 417.
([15]) لم نعثر عليه إلّا في تفسير الآلوسي 7: 468/تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ دون أن يتطرق إلى أنه ذكر عند أمير المؤمنين×؛ وبالتالي فهو لم يذكر جوابه×.