حول الإنسان/ الاُذن (33)
فقال: «الرجل الأسود الوجه، الكثير شعر الرأس، ينظر بعينين كأنهما قدران، وينطق بلسان شيطان».
فدعاه رسول الله‘ ولامه على ما يفعل، فحلف أنه لم يفعل شيئاً من ذلك، فقبل منه رسول الله؛ لأنه حلف بالله، فمضى إلى أصحابه، وقال: إن محمداً اُذن؛ أخبره ربّه أني أنمّ عليه وأنقل أخباره إلى الآخرين فصدقه، وأخبرته أني لم أفعل شيئاً من ذلك فصدّقني؛ فهو اُذن. أي أن فيه‘ قابلية لسماع كلّ ما يقال له كما أن في الاُذن قابلية لذلك فلا تستطيع أنْ تسمع شيئاً وتمتنع عن سماع شيءٍ آخر، ونبينا محمد‘ كذلك.
وخفي على هذا المنافق الخبيث أن رسول الله‘ لم يُصدقه، وإنما قبل منه تكرّماً، وتنازل عنه تفضّلاً، وتركه تعظيماً لاسم الله الذي حلف به.
وأمّا قوله تعالى: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ﴾، فمعناه أنه لا يُصغي إلّا لسماع ما ينفعكم، ولا يُصغي لسماع ما يضرّكم. و ﴿يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، أي يُؤمن بالله ويُصدّق للمؤمنين، وأمّا المنافقون فإنه لا يُصدّقهم إلّا فيما صدقوا فيه، وأمّا ما كذبوا فيه، فإنه لا يُصدّقهم به وإنما يتقبّل منهم تكرّماً، ويعرض عن تكذيبهم تفضّلاً؛ عملاً بما أمره ربّه جلّ وعلا، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.
قالوا: ولا تلازم بين أسماعنا وأبصارنا فيما نرى ونسمع، فقد ترى أعيننا الشخص ولا تسمع أسماعنا صوته، ومثلاً من ذلك النملة فإننا نرى شخصها ولكن لا نسمع صوتها، والذي سمعه النبي سليمان بن داوود× من كلام النملة إنما هو من باب المعجزة لسليمان×، ومن باب الموعظة لبني الإنسان:
فأمّا أنه معجزة لسليمان× فلأنه سمع ما لم يستطع أحد أن يسمعه في ذلك الظرف الذي هو فيه.
وأمّا أنه موعظة لبني الإنسان فكأن الآية تقول لهم: انظروا إلى نبي الله سليمان بن داوود×؛ فتح الله سمعه فسمع كلام النملة على بعدهامنه، وعلى ما هو فيه من رهج الموكب الضخم: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا﴾، وأنتم تتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول‘([1])، فهل تظنون أن أصواتكم تخفى على الله سبحانه؟ كلّا ثم كلا: ﴿سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ﴾([2]). ويقول تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾([3]). ويقول تعالى: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم﴾([4]). فسبحان من وسع سمعه الأصوات.
وكما أننا قد نرى الشيء ولا نسمع صوته، فإننا قد نسمع صوت الشـيء ولا ترى شخصه، ومن ذلك النوع أصوات الهواتف التي تواترت بذكرها الأخبار، لا سيّما في أيام مولد الرسول‘، قال: البوصيري& في همزيّته:
وتوالت ذكرى الهواتف أن قد | ولد المصطفى وحقّ الهناءَُ([5]) |
وقد تقرّر علمياً أن الاُذن والعين إنما هما آلتان للسمع والبصر، وإلّا فإن السامعة والباصرة هي الروح، وليس دليلهم الأول والأخير على ذلك أنه إذا مات الحيّ تعطّل سمعه وبصره، بل إن من أدلّتهم أنه قد يرى ويسمع وهو نائم وعيناه مغمضتان، واُذناه معطّلتان، ومع ذلك، فإنه قد يرى الرؤيا صورة وصوتاً. ومن ذلك الرؤيا الإمام الحسين× التي أخبر عنها فقال: «عن لي فارسٌ على فرسٍ يقول: القوم يسيرون والمنايا تُسرع بهم»([6]). قال الدمستاني&:
بينما السبط بأهليه مجدٌ بالمسيرْ أن قدّام مطاياهم مناياهم تسيرْ |
وإذا الهاتف ينعاهم ويدعو ويشيرْ ساعة إذ وقف المهر الذي تحت الحسينْ([7]) |
الهوامش:
([1]) إشارة إلى الآية: 8 من سورة المجادلة.
([6]) الإرشاد2: 82، روضة الواعظين: 180، باختلاف.
([7]) نيل الأماني ديوان الشيخ حسن الدامستاني (قصيدة أحرم الحجّاج): 190.