حول الإنسان/ الاُذن (32)
ثم التفت إليه وقال له: «ارجع إلى قومك وادعُهم وارفق بهم».
فرجع إليهم وجعل يدعوهم بأناة ورفقٍ كما أوصاه رسول الله‘، حتى أسلم منهم أكثر من ثمانين اُسرةً، فجاء بهم إلى رسول الله‘ مكبّرين مهلّلين، فأدركوا رسول الله‘ بخيبر وذلك سنة ستّ من الهجرة، وكان فيهم ابن عمّه أبو هريرة الدوسي([1]).
واستشهد الطفيل في حرب اليمامة، حيث كان المسلمون يحاربون مسيلمة الكذّاب، وذلك في سنة (11) من الهجرة في خلافة أبي بكر.
هكذا كانت قريش تحارب نفوذ القرآن والدعوة إلى الإسلام، وبذلك وصفهم الله بما هم أهله، فقال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾([2]) كما تقدم. فهم في ذلك أشبه الناس بقوم نوح× الذين قال عنهم: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾([3]). ولم يكن هذا الذمّ هو نصيبهم الأول والأخير، بل إنهم يُسألون عن ذلك يوم القيامة، قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾([4]).
ولهذا يجب على الإنسان المؤمن أن يستخدم سمعه في سماع ما ينفعه كالاستماع لتلاوة القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾([5]). كما يجب عليه أن يصدّه ويصونه عن سماع ما لا يحلّ له استماعه، قال الشاعر:
وسمعك صن عن سماع القبيح فإنك عند سماع القبيح |
كصون اللسان عن النطق بهْ شريك لقائله فانتبهْ |
قالوا: وإنما بدأ الله سبحانه بذكر السمع أوّلاً، ثم البصر ثانياً، ثم الفؤاد ثالثاً، في هذه الآية وفي غيرها، كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾([6])، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾([7]) إلى غير ذلك من الآيات لأن:
1ـ أول ما ينفتح من الإنسان سمعه، فإنه ينفتح بعد أيامٍ قليلةٍ من ولادته لا تزيد عن (17) يوماً على الأكثر، فيبداُ الطفل يتخلع لسماع بعض ما يسمع، ثم بعد أيام ينفتح بصره فيأنس بالضياء ويستوحش من الظلام، ويدير عينيه في المرئيات، ثم بعد أيام ينفتح فؤاده فيعرف اُمّه وبعض من يختصّ به، ويريد هذا وينفر من ذاك.
2ـ أن حاسّة السمع تسمع من جميع الجهات، في حين أن حاسّة البصر لا تنظر إلّا في الجهة التي تتّجه إليها.
3ـ أن حاسّة البصر لا تُبصر في الظلام الدامس، في حين أن حاسة السمع لا يحول الظلام بينها وبين عملها.
وقد جاء في كتاب (الطب محراب الإيمان) صفحة 203 أن السمع يأتي من ناحية الأهمية قبل البصر فالكثير من الذين حرموا نعمة البصر حتى وهم صغار يتعلمون ويبلغون درجة راقية من العلم والفهم والإدراك وأبو العلاء المعري المولد بتاريخ 27/3/ 363 والمتوفى بتاريخ 3/3/ 449هـ وأمثاله دليل واضح على صدق هذه الفكرة فقد فقد بصره في السنوات الأولى من عمره فلم يمنعه ذلك من تلقي العلوم والمعارف حتى وصل الى درجة عظيمة من النبوغ وبقي علماً في الشهرة حتى يومنا هذا ولكننا لم نسمع بأن الإنسان الأصم تمكن أن يصل الى درجة من العلم والمعرفة كهذه الدرجة.
وما ذاك لأن الفهم والنطق يتعلقان بالسمع أكثر مما يتعلقان بالبصـر وهنا تتحلى حكمة الحكيم العليم جل وعلا في تقديم السمع على البصـر في الآيات القرآنية المذكورة.
أقول: ومن أمثاله العالم الكبير والطبيب الشهير الشيخ محمد بن الحاج ناصر النمر العوامي القطيفي المتوفى بتاريخ 9/10/1348 تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته.
فسبحان من جعل كلماته دليلاً على تتابع نعمه وهباته.
وكما ذمّ جلّ وعلا من تكون لهم آذان لا يسمعون بها، فقد مدح من فتح سمعه لسماع ما ينتفع به، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾، أي لمن كان له عقلٌ وفهمٌ، ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾، أي أنه أصغى بسمعه وشهد بقلبه. ومدح من قال: ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾([8]). ومدح من قال: ﴿وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾([9]).
وجاء في كثير من الكتب الإسلامية والتفاسير القرآنية أنه لما نزلت هذه الآية المباركة: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾([10])، قال رسول الله‘: «سألت ربي أنْ يجعلها اُذن علي». وأن علياً× كان يقول بعد ذلك: «فما سمعتُ من رسول الله‘ شيئاً نسيته إلّا حفظته»([11]).
وقد سمى بعض المنافقين رسول الله «اُذناً»، قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾([12]). وقد جاء في كتب التفسير([13]) وغيرها([14]) أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن رجلاً من المنافقين يقال له عبدالله ابن نفيل كان يقعد عند رسول الله‘ فيسمع كلامه وينقله إلى أصحابه المنافقين، فنزل جبرئيل× وأخبره بذلك، وقال له: «إن رجلاً من المنافقين ينمّ عليك وينقل كلامك إلى المنافقين». فسأله النبي‘ عنه؟
يتبع…
الهوامش:
([1] ) الاستيعاب2: إمتاع الأسماع5: 311.
([11] ) الجامع لأحكام القرآن18: 264.