شرح دعاء الصباح 39
﴿فَبِئسَ المَطِيَّةُ الّتي امتطأتْ([1]) نفسي مِن هَواها؛ فَواهاً لِما سَوَّلت لَها ظُنُونُها وَمُناها!»
«المطيّة»: الدابة تمطو في سيرها، أي تجدّ في سيرها. «امتطأت»: أي اتّخذتْ نفسي هواها مطيّة تذهب حيث ما شاء الهوى. وهو مَركبٌ جَموح يهوي براكبه إلى الهاوية. وإن عبدته ـ كما في الآية: ﴿أفَرأيتَ مَنِ اتّخَذَ ألهَهُ هَواهُ﴾([2])، وفي الحديث: «أبغَضُ إله عُبِدَ في الأرضِ الهَوَى»([3]) ـ فلا وفاء لهذا الإله المتّخذ والمعبود المجعُول، فلتعبد النّفسُ ربّه الذّي هو ذو العهد والوفاء بلوازم الربوبية والمولوية، وإن نقضت ميثاقه الذي واثقته في عالم الذرّ، فكيف إذا لم تنكث العهد والميثاق؟
وكلمة «واهاً» ـ ويترك تنوينه ـ تقال عند التعجّب من حُسن شيء، وكلمة تلهّف أيضاً، وقيل: عند التّوجع يقال «آهاً»، ولو قصر القائل فهذه الفقرة الشريفة ردّ عليه. وفي «هواها» و«واها» جناس «شبه الاشتقاق» و«المزدوج»؛ فإنّه إذا ولي أحد المتجانسَيْنِ الآخر سمّى الجناس «مزدوجاً». ولا تتوهمنّ أنّه «جناس مقلوب»؛ إذ في الجناس المقلوب لابدّ في المتجانسين من الاتّحاد في نوع الحروف وعددها وهيئاتها، والتخالف في التّرتيب فحسب، كما في الدّعاء: «اللهمَّ استُر عَورِاتنا، وآمِنْ روعاتِنا»([4])، و«هوا» و«واها» ليسا كذلك. ثمّ إنّ فيه صنعة «المسلسل» أيضاً، وهي أنّ يؤتى([5]) بلفظ في آخر بيت أو فقرة ثمّ يعاد في أوّل آخر أو اُخرى يليانهما، كقوله تعالى: ﴿مثل نُوِرِهِ كَمِشكوة فيها مِصباحٌ المِصباحُ في زُجاجَة الزُّجاجَةُ كَانَّها كَوكَبٌ دُرّيٌ﴾([6]). وفيما نحن فيه، وإن لم يعد بمادّته وصورته بل بمادته فقط، إلّا إنه لا يضرّ عندي التغيّر القليل كما في «ردّ العجز على الصّدر»؛ حيث إنّ الردّ إمّا بلفظه وإمّا بمجانسه ولو كان «جناس شبه الاشتقاق».
وكلمة «ما» مصدريّة. «سوّلت له نفسه» كذا: زيّنت، فالمفعول محذوف، أي سوّلت ظنونها ومناها لها علومها وأعمالها. ويحتمل أن يكون «ظنونها» و«مناها» كلاهما متعلّقين بالعمل، بأن يراد بالظّنون: العلوم المتعلّقة بكيفيّة الأعمال. وكيفيّة تسويلهما: أن يرياها الجزئيّات بصورة الكليّات، والدّاثرات بصورة الباقيات، والأفعال المغيّاة بالغايات الوهميّة الّتي هي كالسَّراب مغيّاةً بالغايات العقليّة المحكمة الباقيات. والأُمنية وطول الأمل يريها الأعداءَ بصُورة الأحبّاء، فيأخذ عدوّه الواقعي ويسميه أولاداً وأقارب وزوجةً، وينسى قول الله تعالى: ﴿يَومَ يَفِرُّ المَرءُ مِن أخيهِ([7])* وَاُمِّهِ وَأبِيهِ * وصاحِبَتِهِ وَبَنيهِ﴾([8])، وقول المعصوم: «إنَّما يدَّخِرُون المالَ لِبَعْلِ زَوجتهِمِ، وَلزوجاتِ أبنائِهِم، ولأزواجِ بَناتِهِم بَعد مَوتِهِم، فَيطيلُ الأمَل ويَسألُ الله أن يُعمِّرهُ لِيُربِّيهم وَيُكلِّمهُم».
والظّنون قد تُزيِّن وتُري هواجس النّفس بصور الشرعيّات، مثل أنّه ترتع في مراتب البهائم، وتقضي وطر نفسه، ويتشبّثُ بقوله تعالى: ﴿قُل مَن حَرَّمَ زِينَةَ الله الّتي أخرَجَ لِعبادِهِ والطَّيّباتِ مِنَ الرِّزقِ﴾([9])، ويحبّ الأولاد حبّاً حيوانيّاً، ويتمسّك بقوله تعالى: ﴿إنَّما أموالكُمُ وَأولادُكُم فِتنةٌ وإنّ الله عِندَهُ اجرٌ عَظيمٌ﴾([10]).
والأولى أن يرجع «تسويل الظنّون» إلى النظريّات من العلوم غير المتعلّقة بالعمل، و«المنى» إلى العمليّات. أمّا الثاني فقد مرّ، وأمّا الأوّل فمثل تسويل تنزيه المبدأ لكثير من الحكماء، وفيه وفي المعاد لقليل منهم، وتسويل الصّفات التشبيهيّة في المبدأ للمشبّهة، والاقتصار على المُجازاة الصّوريّة في المعاد لأكثر المليين، سيّما المشبّهة. والحقّ أنّه تعالى([11]) خارج عن الحدّين: حدِّ التّشبيه، وحدِّ التّعطيل، كما عليه العرفاء الشامخون، والحكماء المتألّهون، ونطق به القرآن الحكيم بقوله تعالى: ﴿لَيسَ كَمِثِلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّميعُ والبَصيرُ﴾([12]). ومثلُ تسويل المعارف الجمّة بالمبدأ والمعاد، وإن كانت في أعلى المراتب وأدقّ المعاني؛ لأنّه لا يعرف الله بقوّة العقل من حيث هو، وإنّما يعرف بنور منه([13]) بما هو هو كما مرّ.
يتبع…
الهوامش:
([1]) كذا بالهمز في النسخة الحجرية، وما في مظانّ الدعاء الشريف: «امتطت».
([4]) بحار الأنوار 20: 192، إعانة الطالبين 1: 251. وقد ورد في بعض المصادر «عورتنا»، و«روعتنا»، انظر التبيان في تفسير القرآن 8: 320، وفي بعضها «عوراني»، و«روعاني»، انظر: بحار الأنوار 94: 234، مسند أحمد 2: 25، سبل السلام 4: 221، وفي بعضها: «عورتي»، و«روعتي»، انظر: مكارم الأخلاق: 101، مفتاح الفلاح: 121، وغيرها كثير في الموارد الأربعة.
([5]) ومن صنعة المسلسل، نحو قول «ابن الفارض» من تائيّته:
فلم تهوني ما لم تكن فيّ فانياً | ولم تفنَ ما لم يجتلى فيك صورتي |
ومن هذه الصنعة مثل قول «العارف الرومي» في الفارسيّة:
چون به صورت آمد آن نور سره كنكره ويران كنيد از منجنيق |
شد عدد چون سايه هاى كنگره تا رود فرق از ميان اين فريق |
منه، وبيت ابن الفارض بعضهم رواه بجزم «يتجلى» وإن أخلّ الجزم بالوزن، والبعض الآخر رواه دون حذف حرف العلّة؛ مراعاة للوزن وإن أخلّ بالنحو فيه، ولا ضرورة في البين.
([7]) إنّما كان الفرار من هؤلاء؛ لأنّ ذلك اليوم يوم البروز وكشفُ الغطاء؛ فينكشف للمرء أنّهم أعظم شاغل له عن الله تعالى، وأنّه بهم صار محتجباً عنه تعالى:
عدوى خويش را فرزند خوانى نهادى ناقصـى را نام خواهر |
زخود بيگانه خويشاوند خوانى حسودى را لقب كردى برادر |
منه.
([8]) عبس: 34 ـ 36، بل قوله جلّ شأنه: ﴿إن من أزواجكم عدوّاً لكم فاحذروهم﴾. التغابن: 14، فهو أصرح في المطلوب.
([11]) هذا إحقاق لمقابل القول بالتّنزيه الخالي عن الجميع؛ وأمّا مقابل الاقتصار على المجازاة الصوريّة المعتقدة لكثير من القشريّين، فهو أنّ الحقّ هو الجمع بين المُجازاتين: الرّوحانيّة، والصّوريّة؛ فانّ الإنسان «هيكل التوحيد»، ووجود جامع بين المدارك الجزئيّة وأعلى المدارك، ولكلّ منها غايةُ تليق بها:
فقوّةٌ تقتصر على الاكتساء بالسُّندُس والإستبرق.
وقوةٌ [همها] [كلمة غير مقروءة، والظاهر ما أثبتناه] التّسربُل بالّلاهوت.
وقوةٌ لها شهوة النّهمة من الحلاوي والسّلسبيل.
وقوّةٌ قوتُها كأهل الجبروت بالتسبيح والتّهليل.
هذا في قُوى شخص واحد وأيضاً للناس طبقات ثلاث: أعلى وأوسط وأدنى؛ فغايات الأعلين والبالغين ليست مثل غايات الأدنين والمتوسّطين. وفي الدّعاء: «يا نعيمي وجنّتي»، [بحار الأنوار 91: 148]. وإنّما لم نذكر هذا القابل؛ لأنّا ذكرناه قبيل ذلك. منه.
([13]) لأنّ العقل له الطيران إلى سماء عالم الأمر، والحسُّ له السّريان إلى عالم الخلق. فمن له الحق والأمر وفوقهما، لا يمكن إدراكه بهذه المدارك ـ أعلاها وأدناها ـ لأنّ المُدرَك لا بدّ أن يكون من سنخ المُدرِك، وذان سنخ لذينك، فبِنُورهِ يُدرك نوره كما في الدّعاء: «بك عرفتُك»، [بحار الأنوار 91: 190، 95: 39، 82 ]. كما سبق. منه.