حول الإنسان/ القلب (29)
وربما يسأل البعض فيقول: ما هو وجه الجمع بين هاتين الآيتين السابقتين؟
وهما قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾؟
الجواب: أن الوجل لذكر الله ـ وهو الخوف من الله سبحانه وتعالى ـ يحصل من الإحساس بالمسؤوليّة أمام الله يوم القيامة، فإنه جلّ وعلا يقول: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾([1])، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾([2])؛ ولذلك يصاب المؤمن بالوجل، وهو الخوف من الله سبحانه لما سيسأله عنه من أعماله يوم القيامة. وأمّا الاطمئنان فإنه يحصل من المؤمن في مقابل العوامل الطبيعيّة التي تعرض له في الحياة الدنيا، كالخوف من الفقر والمرض وظلم الظالمين وبغي الحاسدين؛ فإن هذه العوامل وأمثالها تذوب في قلب المؤمن بالاعتماد على الله جلّ وعلا، والاطمئنان إلى حمايته وكفايته، فنراه دائماً متمثّلاً بقول الشاعر:
إن ربّاً كفاك بالأمس ما كا | ن سيكفيك في غد ما يكون([3]) |
ومن آيات الطمأنينة في القرآن الكريم آية قول النبي إبراهيم×: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾([4])، والآية التي نزلت في عمّار بن ياسر (رضي الله عنه)، وهي قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾([5])، وغير ذلك من الآيات.
ومنها الإيمان وعدمه. فأمّا أن الإيمان في القلب فيبيّنه قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾([6]). وأمّا عدمه منه فيبيّنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾([7]).
ومنها الصبر والجزع، ويبيّن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾، أي فارغاً من الأمل بسلامة ولدها، وفارغاً من الصبر على فراقه ﴿لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾، أي بالصبر ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾([8]).
ومنها الزيغ والهداية، ويبيّن ذلك قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾([9]).
ومنها النفاق والتقوى؛ فأما النفاق فيبيّنه قوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾([10])، وأمّا التقوى فيبيّنها قوله تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾([11]).
ومنها أنه محلّ القسوة والرأفة والرحمة، فأمّا القسوة فيبيّنها قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾([12]). وعن الإمام علي× أنه قال: «ما جفّت الدموع إلّا من قسوة القلوب، وما قست القلوب إلّا من كثرة الذنوب»([13]).
وعن الإمام الباقر× أنه قال: «إن لله عقوبات في القلوب والأبدان: ضنكٌ في المعيشة، ووهن في العبادة. وما ضُرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب»([14]).
وفي كتاب (الواعظ) عن النبي| أنه قال: «من أنكر منكم قساوة قلبه فليُدنِ يتيماً وليلاطفه وليمسح رأسه، يلِن قلبه بإذن الله؛ فإن لليتيم حقّاً»([15]).
وأمّا أن الرحمة والرأفة في القلب فيبيّنهما قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾([16]).
ومنها أنه محلّ الاُلفة والفرقة؛ فأمّا الاُلفة فيبيّنها قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾([17])، وأمّا لفرقة فيبيّنها قوله تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾([18]).
ومنها أنه محلّ المرض النفسي والطهارة النفسيّة؛ فأمّا المرض النفسي فيبيّنه قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾([19])، وأمّا أنه محل الطهارة النفسية فيبين ذلك قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾([20]). وعن أمير المؤمنين× أنه قال: «ألا وإن من البلاء الفاقة، واشدّ من الفاقة مرض البدن، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب. ألا وإن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحّة البدن، وأفضل من صحّة البدن تقوى القلوب»([21]).
ومنها أنه محلّ الرضا والسخط؛ فأمّا أنه محلّ الرضا فيبيّنه قوله تعالى: ﴿يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ﴾([22])، وأمّا أنه محلّ السخط فييبّنه قوله تعالى: ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾([23]).
الهوامش:
ويقول الشاعر أيضاً
كزمن زمانك معرضا الله عودك الجميل |
وكل الأمور الى القضا فقس على ما قد مضـى |
([4]) البقرة: 260.
([13]) علل الشرائع 1: 81 / ب 74 ح1.
([15]) الوعظ 6: 264، وانظر الفقيه 1: 188 / 572.