حول الإنسان/العقل (27)
ففطن بعض التلامذة الأذكياء المؤمنين إلى أن الاُستاذ يدعوهم إلى عدم التصديق بوجود الله جلّ وعلا، فرفع إصبعه إليه، وطلب منه الإذن بالكلام.
ولمّا أذن له تكلّم وأثنى على الاُستاذ وشكره على ما تفضّل به، وبعد ذلك وجه إليه سؤالا هو أشبه شيء بسؤال هشام بن الحكم المتقدّم لعمرو بن عبيد، إلّا إن هشاماً ركز على أعمال الجوارح والحواسّ، وهذا التلميذ ركّز على وجودها فقط، فقال له: يا اُستاذ، ألك عين؟ قال: نعم. قال: فأين هي؟ فأشار الاُستاذ إليها، فقال التلميذ: صدق الاُستاذ: إن له عيناً؛ لأننا نراها بأعيننا وندركها بحواسّنا. ثم قال: وهل لك اُذنٌ؟ قال: نعم. قال: فأين هي؟ فقال: هي هذه. واشار إليها، فقال التلميذ: صدق الاُستاذ؛ إن له اُذناً؛ لأننا نراها بأعيننا وندركها بحواسّنا.
وما زال يسأله عن شيء بعد شيء حتى قال له: ولك عقل؟ قال: نعم. قال: فأين هو؟ قال: إن العقل لا يرى، وإنما يعرف بآثاره. فقال التلميذ: أيّها الاُستاذ، إنك دعوتنا في محاضرتك النافعة بزعمك إلى ألّا نصدق إلّا ما تدركه حواسّنا، وقلت: إن كلّ ما لا تدركه الحواسّ فليس بموجود، فعليك بعد ذلك أن ترينا عقلك، وإلّا فأنت مجنون. ثم قال التلميذ: قوموا؛ فإن الاُستاذ مجنونٌ. فقام التلاميذ وهم يضحكوم ويقولون: الاُستاذ مجنون.
فعاتبه الاُستاذ على ذلك وقال: سخرت بي وجعلتني سخرياً للتلاميذ! فقال: هذا ما أردته لنفسك؛ إنك أردتنا أن ننكر وجود الله جلّ وعلا؛ لأننا لا نراه، فعلينا قبل ذلك أن ننكر وجود عقلك؛ لأننا لا نراه. ثم جدّد التلميذ النداء لزملائه وقال: انصرفوا فإن الاُستاذ مجنونٌ.
وصدق التلميذ؛ فإن كلّ من ينكر وجود الله سبحانه وتعالى فهو مجنونٌ: ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾([1]). بل كلّ من لم يطع الله فهو مجنونٌ، وقد قال تعالى عن العصاة والكافرين: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾([2]). وقال تعالى: ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾([3]).
في كتاب (الواعظ) عن أبي عبد الله× أنه سأله بعض أصحابه: ما العقل؟
فقال×: «العقل هو ما عبد به الرحمن، واكتسب به الجنان». قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: «تلك النكراء.. تلك الشيطنة، وهي شبيهةٌ بالعقل وليست بالعقل»([4]).
وقد سبق الإمام الصادق× إلى هذا القول جدّه أمير المؤمنين× حيث قال: «والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كلّ غدرة فجرة وكل فجرة كفرة، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة»([5]).
وفي كتاب (أدب الدين والدنيا) عن أبي الدرداء قال: قال لي رسول الله| «يا عويمر ازدد عقلاً، تزدد من ربّك قرباً». فقلت: بأبي واُمي أنت يا رسول الله، ومن لي بالعقل؟ فقال: «اجتنب محارم الله وأدِّ فرائضه تكن عاقلاً، ثم تنفّل بصالحات الأعمال تزدد في الدنيا عقلاً، وتزدد من ربّك قرباً وعزّاً».
وفي (مستدرك سفينة البحار) أن رجلاً نصرانيّاً من أهل نجران قدم المدينة، وكان فيه بيانٌ وله وقارٌ وهيبة، فقيل: يا رسول الله، ما أعقل هذا النصراني! فزجر القائل، وقال: «مه، فإنّ العاقل من وحدّ الله وعمل بطاعته»([6]). وعنه| أنه قال: «قسم الله العقل ثلاثة أجزاءٍ، فمن كُنّ فيه كمل عقله، ومن لم يكنّ فيه فلا عقل له: حسن المعرفة لله، وحسن الطاعة لله، وحسن الصبر على أمر الله».
وقد ذكر العقل باسمه ومشتقاته في القرآن الكريم نحو من خمسين مرة وذكر أولي الألباب يعني ذوي العقول بضع عشر مرة وذكر أولي النهى وهو العقل مرة فقال في سورة طه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى﴾ ووردت فيه عن النبي| أحاديث كثيرة ومن تلك الأحاديث ما روي عنه| أنه قال أول ما خلق الله العقل فقال له اقبل فأقبل ثم قال له إدبر فأدبر ثم قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً اكرم علي منك بك آخذ وبك أعطي وبك أثيب وبك أعاقب.
وعن أبي سعيد الخدري عنه| أنه قال لكل شيء دعامه ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قوله تعالى ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾([7]).
وعن أنس قال أثنى قوم على رجل عنده| فقال كيف عقله فقالوا نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأعمال الخير وتسألنا عن عقله فقال| أنما يرتفع العباد غداً في الدرجات عند ربهم على قدر عقولهم وهنا تناسب قصة العابد الذي قال لو كان لربنا حمار
ولعظم شأن العقل وضرورة الحاجة إليه حرم الله جل شأنه كل ما يؤثر عليه كالخمر وأمثاله ووضع عقوبته لمن ينتهك حرمته تساوي حد القذف بالزنا لأن شارب الخمر اذا شرب سكر وإذا سكر هدى وإذا هدى افترى كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب × في قصة قدامه بن مضعون
الهوامش:
([5]) نهج البلاغة / الكلام: 200.