شرح دعاء الصباح 37
فإذا نظرت إلى الإنسان نظرك إلى الماء والتّراب البسيطين مثلاً، لَوَجَدْتَ جميع ما فيه من حلل العلم وحلي القدرة وغيرهما كلّاً من الطواري والعواري([1])، ثمّ تشفع هذا النّظر بالنّظر النّوراني بأن ترى في كلّ شيء من الجهتين اللتين تركّب منهما جهة النّورانيّة والخيريّة بأن تنتبه بالمسألة البديهيّة القائلة بأنّ الوجود خير أينما تحقّق، وتستشعر بأنّ الوجود الحقيقي([2]) في كلّ شيء بما هو وجود لا جزء له أصلاً، حتّى يكون جزء منه في شيء، وجزء آخر منه في آخر، بل هو بتمامه الّذي لا بعض له في كلّ شيء، وليس بجسم حتّى يكون له الأجزاء الخارجيّة، ولا بكمٍّ حتّى يكون له الأجزاء المقداريّة، ولا بماهيّة مطلقاً حتّى يكون له جنس وفصل، وأنّ الوجود الحقيقي لا تغيّر له بما هو وجود. فالوجود الّذي في الماضيات عين الوجود الّذي في الغابرات، إنّما التغيّر في الزّمان والحركة والوجود ليس بهما؛ فتفطّن بأنّ حيثيّة الوجود الذّي هو حقيقةٌ بسيطة نوريّة عين حيثيّة الوجوب، لا أنّها مساوقة لها أو كاشفة عنها، اللهمّ إلّا باعتبار المفهوم، وقد سبق في بيان قوله×: «يا مَن دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ».
و«الذّنب» الّذي [هو] منشأ المباعدة عن دار الوصال هذه إنّما عمدته الجهل بعلوم أهل الله، والإعراض عن علم الطريقة والحقيقة، ثمّ تشتّت الخواطر وفتور العزيمة والتّلوين. وبالجملة، كلّ ما هو منشأ الغفلة.
وأمّا «الوصال» الأوّل، فهو الكينونة السّابقة للأرواح([3])، لا بنحو الجزئيّة والتّكثّر على ما ينسب إلى أتباع أفلاطون؛ فإنّه مستلزم للمحاذير([4]) المحرّرة في كتب أهل الحكمة، بل على ما هو مغزى مرام أفلاطون القائل بقدم النفس، وهو الكينونة العلميّة، والكينونة العقليّة الكليّة، والكينونة النفسيّة الكليّة؛ لأنّ الوجود أصيل، وأنّه مقول بالتشكيك، وأنّ الحقيقة هي الرقيقة بنحو أعلى، والرّقيقة هي الحقيقة بنحو أضعف، والعلّة حدٌّ تام وجودي للمعلول، والمعلول حدٌّ ناقص وجودي للعلّة، ومعطي الكمال أحقّ به بالضّرورة، وشيئيّة الشيء بتمامه حقيقة الشيئيّة، إلى غير ذلك من قواعد الحكمة المتعالية.
فإذَنْ، يمكن أن يكون أفراد حقيقة واحدة متفاوتةً في التعلّق والمفارقة، والتجرّد والماديّة، والمعنويّة والصّوريّة. فكينونة العقل المفارق في المقام الشّامخ الجبروتي قبل أن يخلق عالم الخلق والشّهادة كينونةُ ذات النّفس، وإن لم يكن كينونة النّفس من حيث هي نفس، كما أنّ كينونة النّفس في عالم الكون وتمرّغها في التّراب وتعفير خدها كينونةُ العقل هاهنا، فإنّ النفس من حيث هي نفسٌ إشراق العقل وتجلٍّ منه بحسب ظرفيّة القابل. وهذا معنى الهبوط والنزول في النّفس والعقل كما قال تعالى: ﴿اِهبطُوا بَعضُكُم لِبعض عَدُوٌّ﴾([5]). ومن كلمات الشيخ الرئيس+:
هَبَطَتْ إلَيكَ مِنَ المَحَلِّ الأرْفَعِ | وَرقاءُ ذاتُ تَعَزُّز وَتَمَنُّع([6]) |
ومعلوم أنّه لا يجوز على المجرّدِ الحركةُ الأينيّة، والتّجافي عن المقام الذّاتي، ومثله معنى الصّعُود فهو الاتّصال العنويّ بالحقيقة العقليّة العالية فطرةً.
الهوامش:
([1]) يعني اذا أخذت الإنسان الطبيعي، وهو البدن بـ«شرط لا»، أي مجرّد العناصر والأخلاط ونحوها، وجدت أنّ كلّ ما فيه من العلوم الحقيقيّة، والحكم الشامخة، والقدر العجبية عواريَ وودائعَ من الله تعالى، واستغربت واستعجبت حينئذٍ، وعلمت أن في العناصر الميّتة من تجلي الله شيئاً، وأنّ شأن القابل ليس إلّا تصحح الورود ولو كانت هذه العجائب من الماء الذي [هو] أحد اُصول هذا الإنسان، فهذا الماء الذي في الخارج من أخواته ماء ولو كان من الأرض التي فيه، فها هي أرضٌ في الخارج، وليست إلاّ عطلاء من هذه الحلل والحلي، وقسْ عليه. نعم، «از كوزه همان برون تراود كه در اوست»، وله الملك وله الحمد:
منه.
برون زد خيمه زاقليم تقدّس | تجلى كرد در آفاق وانفس |
([2]) أي أضف إلى النظرين نظراً آخر تتبصّر إن شاء الله فالق الكثرة، تلق الوحدة بأن تعرف أن لا مَيْز في صرف الشيء، فصرف الوجود الذي هو جامعٌ لكلّ ما هو سنخه، ومجرّد عمّا هو غريبه ـ وغريب الوجود ليس إلاّ العدم ـ لا ثاني له، ولا جزء له، ولم يتخلّل في حقيقة الموجود غيرها، وما لم يتخلّل في حقيقة غيرها لم تتباين بينونة عزلة. منه.
([3]) اعلم أنّ الكينونة السابقة لها تُتصوّر على وجوه:
أحدها: الكينونة السابقة العلميّة والقلميّة واللّوحيّة كما فصّلناه. وهذا في السّلسلة الطوليّة النزوليّة.
وثانيها: الكينونة العقلية في السلسلة العرضيّة للعقول بالفعل، والمستفادة، إذ لها اتّحاد في مقام الإتّحاد بالعقل الفعّال المشخّص لها في تلك المرتبة، وإن كان لها تكثّر في مقام الإضافة إلى عالم الصّورة. وإلى هذا يشير قول عليّ×: «كنتُ مع جميع الأنبياء سرّاً، ومع الخاتم|» جهراً وقوله×: «لي الكرّات والرّجعات». وذلك لأنّ عقيدتهم الحقّة واحدة، وخلقهم العدل، وقبيلتهم الحقيقة هي الحقّ؛ فباطن ذاتهم واحد؛ ولهذا ورد: «إنّ من رأي عليّاً، فقد رأى أولي العزم من الرسل». ومضمون هذا ونحوه مأثور.
وهذان الوجهان كلاهما حق، والثاني وإن كان بحسب التعلّق الصوريّ في السّلسلة العرضيّة لكنّه بحسب الباطن في الطّول.
وثالثها، الكينونة النّفسيّة في السّلسلة العرضيّة على سبيل النقل إلى النّواسيت، وهذا باطلٌ؛ لأن التناسخ محال. منه.
([4]) إذ قالوا: لو كانت النّفوس موجودة قبل الأبدان، كانت: إمّا واحدة، وإمّا كثيرة:
فإن كانت واحدةً، فإمّا بعد التعلّق واحدةٌ أيضاً فيكون نفس زيد بعينها نفس غيره، فيعلم كلّ ما يعلمه الأخرى وهو باطل، وإمّا كثيرة فيلزم تجزية المجرّد.
وإن كانت كثيرة، فتكثر نوع واحد بالمادّة ولواحقها، ولا مادّة في عالم التجرّد. ومادّة النفس هي البدن، فإن كانت قبل هذه الأبدان في أبدان اُخرى لزم التناسخ وهو محال. فهذه تلزم إذا كانت النفوس بما هي نفوس، وبما هي كثيرة قديمة ولا يلزم شيء من هذه إذا كانت الكينونة العقليّة والعلميّة بنحو الوحدة هي الكينونة السابقة للنّفس، كما فصّلناه. منه.
([6]) ومن هذه القصيدة العينيّة قوله:
أنَفَت وما أنَست ولما واصلت | ألفت مجاورة الخراب البلقَعِ |
ومنها:
وأظنُّها نسيت عهوداً بالحمى | ومنازلاً بفراقها لم تقنعِ |
فهذه وأمثالها إشارةٌ إلى كينونة النفس السّابقة، ولكن بما هي واحدة وحدةً عقليّةً كليّةً، وفي النشآت العلميّة، لا بما هي نفوس متعدّدة جزئيّة؛ فإنّ «الشيخ» يقدح فيه، ويقول بحدوث النفس بما هي نفس بحدوث البدن، فكيف يتأتّى له أن يقول: «وأظّنها نسيت» إلى آخره، أو «هبطت»؟ وقس عليه ما في كلمات العرفاء كقول «العارف الروميّ»:
متّحد بوديم ويك جوهر همه | بى سر وبى پا بُديم آن سر همه |
وغير ذلك ممّا لا يحصى. منه.