شرح دعاء الصباح 36
﴿أم عَلِقتُ بأطرافِ حِبالِكَ إلّا حين باعَدَتْني ذُنُوبي مِن دارِ الوصالِ﴾
«علقت» أي اعتصمت، عطف على «أتيتك»، فيدخل «ما» النافية عليه، واُتي بصيغة الجمع في «الأطراف» و«الحبال»؛ تنبيهاً على كثرة الوسائل والأسباب والمراقي إلى الله تعالى. والاستثناء في الموضعين مفرّغ، أي ما أتيت من مكان إلّا من مكان الآمال، وما علقت بها حيناً إلّا حين كذا؛ ففي الفقرَتَيْن «مراعاة النظير» من حيث تناسب المكان والزمان، حتّى يقال أنّهما توءمان.
و«الذّنوب» أعمّ من الصّغيرة والكبيرة، والتّشريعيّة والتّكوينيّة الّتي هي النّقائص اللّازمة من الماهيّة والمادة والتعلّق بهما. ومن أكبر الكبائر ما هو المشار إليه في قوله:
وُجُودُكَ ذَنبٌ لا يُقاسُ به ذَنبٌ([1])
فإنّ الكلّ منشأ المباعدة عن دار الوصال. و«دارِ الوصال» أعم من دار الوصال الّتي خلفك، وكنت أنت وأمثالك فيها منذ العهد القديم ـ ولكونها خلفاً؛ عبّر عنه بـ«الظَّهر» في قوله تعالى: ﴿وَإذ أخَذَ مِن بَني ادَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وأشهَدَهُم عَلى أنفُسِهِم ألَسْتُ بِرَبِّكمُ قالُوا بلى﴾([2]) ـ ودارِ الوصال الّتي قدّامك إن وُفقّتَ للسّير من الخلق إلى الحقّ شريعةً وطريقةً، وللسّير في الحقّ تخلّقاً وتحقّقاً: ﴿مَن كانَ يَرجُو لِقاءَ الله فإنَّ أجَلَ الله لآت﴾([3])، ﴿إنَّ إلى ربِّكَ المُنتَهى﴾([4])، ﴿إنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجعى﴾([5])، ودار الوصال([6]) الّتى بين يديك إن كنتَ ذا حضور وشهود النّور بنور النّور: ﴿ أَلَاْ إنَّهُم في مِرْية مِنْ لِقاء ربِّهِم ألا إنَّه بِكُلِّ شَيء مُحيطٌ﴾([7])، ﴿وَفي أنفُسِكُم أفَلا تُبصِرونَ﴾([8])، «تَعرَّفتَ لِكُلِّ شَيء([9]) فَما جَهِلَكَ شَيءٌ، عَمِيَتْ عينٌ لا تراك!»([10]) … إلى غير ذلك من النقول المتكاثرة المتضافرة، وهي والعقل والبرهان والذّوق والوجدان في هذا المعنى متعاضدةٌ متظاهرة، يُعينك على فهم المطلب النظر البشرط لائي، وإرجاع جنبة الأمر والرّوح إلى أصلها، وإرجاع جنبة الخلق والجسم إلى أصلها في الإنسان، كما قال سيّدنا عليّ×: «ما لاِبن آدَمَ وَالفَخر؟ أوَّلُهُ نُطَفةٌ قَذِرَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ قَذرةٌ»([11]).
الهوامش:
([1]) دلائل الصدق: 227، الكنى والألقاب 2: 158، البحر المديد 1: 158، 4: 90، 5: 32، 6: 65، تفسير ابن عربي 1: 116، 163، 2: 251.
([6]) أي وأعم كذلك من دار الوصال التي بين يديك، فهي معطوفة على سابقتيها.
([9]) هذه الفقرات اقتباس، أي صرت معروفاً لكلّ شيء، معرفيّته وجوديّة بنفس وجود ذلك الشيء لأنّ معرفيّته لكلّ بحسبه؛ فالدّيكة مثلاً لها علم بذاتها حضوراً وبغيرها حصولاً. وجودها ووجود غيرها متقوّم بالوجود المطلق الحقيقي تقوّماً وجوديّاً؛ فإدراكها وجودها، وعشقها بوجودها واتبهاجها وارتضائها له إدراك مقوّمها وعشقه وحمده وتسبيحه.
قطرة آبى نخورد ماكيان | تا نكند رو به سوى آسمان |
([10]) بحار الأنوار 64: 142، 95: 226.
([11]) نهج البلاغة/الحكمة: 454، عيون المواعظ والحكم: 479، وفيهما: «أوله نطفة، وآخره جيفة، لا يرزق نفسه، ولا يدفع حتفه».